"شهادة للتاريخ": كيف تمكنت كوريا الشمالية من امتلاك سلاح نووي؟
18-8-2017

د. يسري أبو شادي
* خبير عالم في المجال النووي، كبير مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية ورئيس قسم الضمانات (سابقًا) عضو المجلس المصري للشئون الخارجية.
بعد توقف الحرب الكورية فى أوائل الخمسينيات، وانفصال كوريا لدولتين، شرعت كوريا الشمالية، بمساعدة من الاتحاد السوفيتى، فى إقامة برنامج نووى بدا فى بدايته أنه محدود. ففى بداية الستينيات، تم تشغيل أول مفاعل أبحاث صغير فى مدينة بيونج يانج، التى أصبحت فيما بعد المركز الأساسى لأغلب المنشآت النووية فى البلاد. 
 
كان هذا المفاعل الأول محدود القدرة 2 ميجاوات حراري ومماثلا لمفاعلات روسية، وقامت كوريا الشمالية بتطوير قدرة هذا المفاعل بالتعاون مع الروس إلى 4 ميجاوات، ثم إلى 8 ميجاوات، مع تغيير تخصيب الوقود من 10% إلى 80% و36% (وهو وقود عالى التخصيب، ويمكن تصنيع قنابل نووية منه بشكل مباشر).
 
فى هذه الفترة، تم اكتشاف عدة مناجم لخام اليورانيوم الطبيعى، وتمكنت كوريا الشمالية من استخلاصه، وإنشاء مصانع ضخمة لتصنيع قضبان اليورانيوم الطبيعى المعدنى. كما استطاعت أجهزة المخابرات الكورية الشمالية أن تحصل على تصميمات لمفاعلات بريطانية "مفاعلان كالدرهول فى سيلافيلد بإنجلترا"، وهى مفاعلات غازية جرافيتية تعمل بقضبان اليورانيوم الطبيعى المعدنى. 
 
البداية بمفاعلات محلية
وفى يناير 1986، بدأت كوريا الشمالية –دون أى إعلام- فى تشغيل أول هذه المفاعلات بصناعة محلية كاملة، وباستخدام الوقود المحلى. وكانت قدرة أول مفاعل هى 25 ميجاوات حرارى، وينتج كما تدعى كوريا 5 ميجاوات كهربى. 
 
والحقيقة أن هذا النوع من المفاعلات ذو غرضين أساسيين، أولهما إنتاج مادة البلوتونيوم عالى الكفاءة، والمستخدم فى القنابل الذرية مثل (قنبلة ناجازاكى)، والآخر لإنتاج الكهرباء. ومن هنا، بدأت الشكوك حول الغرض الرئيسى لهذا المفاعل، خاصة أن كوريا الشمالية شرعت فى بناء مفاعلين آخرين مماثلين ذوى قدرات متضاعفه.
 
فى نهاية الثمانينيات، بدأت كوريا الشمالية فى بناء مبنى ذى أبعاد طولية ضخمة، ويتكون من ثمانية طوابق، منها اثنان تحت الأرض. وفيما بعد، عُلم أن هذا المبنى هو لمعالجة الوقود المشع والمستخدم فى المفاعل الغازى الجرافيتى لفصل البلوتونيوم عالى الكفاءة. جاء تصميم هذا المبنى وطرق الفصل المستخدمة مماثلا كثيرا لمبنى مماثل بالقرب من مدينة "مول" فى بلجيكا، مما يؤدى لشكوك عن تمكن الكوريين من الحصول على هذه التصميمات أيضا.
 
وفى مفاجأة تبدو غريبة فى مايو 1992، أعلنت كوريا الشمالية تصديقها على اتفاقية منع الانتشار النووى (NPT)، ودعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومفتشيها للحضور والتفتيش على المنشآت التى أعلنتها.
 
ومع الأسف، وبتدخل أمريكى مؤثر فى التفتيش، أعلنت وكالة الطاقة الذرية عن عدد من المشاكل الفنية التى تشكك فى سلمية البرنامج النووى الكورى الشمالى. وكشهادة للحق والتاريخ، وبعد عملى لسنوات عديدة فى الوكالة، وكذا المسئول الأول فى الفترة الأخيرة، قبل انسحاب كوريا من معاهدة منع الانتشار، وزيارتى لجميع المواقع والمنشآت هناك، فإننى أؤكد أن كوريا الشمالية، حتى يناير 2003، لم تكن تملك أى مواد نووية جاهزة للاستخدام فى القنابل النووية.
 
من خلق الدولة النووية التاسعة؟:
فى 9 أكتوبر 2006، فوجئ العالم بأول تفجير نووى كورى شمالى، وتم التأكد من هذا التفجير من عدة هيئات، وأصبحت كوريا الشمالية هى الدولة التاسعة التى تملك أسلحة نووية (بعد الولايات المتحدة، ثم الاتحاد السوفيتى، ثم المملكة المتحدة، ثم فرنسا، ثم الصين، ثم الهند، ثم إسرائيل، ثم باكستان) فمن وراء تخليق هذه الدولة النووية؟
 
قد يدهش البعض حين أؤكد أن الولايات المتحدة الأمريكية، التى تهدد الآن بحروب مع كوريا الشمالية، هى العامل الأساسى فى انسحاب هذا البلد من معاهدة منع الانتشار، ومن إيقاف تعاملها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وطرد مفتشيها فى نهاية 2002.
 
وبدون الدخول فى تفاصيل، ففى سبتمبر 2002، زار رئيس وزراء اليابان كوريا الشمالية، لأول مرة فى التاريخ، واعتذر عن حروب واحتلال اليابان لها، وتعهد بدفع تعويضات  بـ 10 مليارات دولار بشرط سماح كوريا الشمالية للوكالة الذرية ومفتشيها باستكمال أنشطتهم، والتأكد من سلمية الملف النووى الكورى، وهو أمر كنت –وأنا وقتها المسئول الأول الفنى عن التفتيش هناك- على وشك استكماله.
 
ولم يعجب الولايات المتحدة إنهاء الملف النووى الكورى بهذا الشكل، وقامت، فى أكتوبر 2002، بإرسال وفد سياسى رفيع المستوى لكوريا الشمالية فى مباحثات انتهت بإعلان أمريكا أن مسئولى كوريا الشمالية اعترفوا، خلال المباحثات، بأنهم يملكون قنابل ذرية، وكذا يقومون بتخصيب اليورانيوم. 
 
وكذّبت كوريا الشمالية هذا التصريح، بل ونشرت النص الكامل المسجل باللغة الكورية، والذى يثبت كذب التصريحات الأمريكية. وبمساندة قوية من الإعلام الدولى الذى تجاهل التكذيب الكورى، فقد بدا وكأن كوريا الشمالية تملك قنابل ذرية، وهو أمر كنت - كمسئول عن كوريا - أرفضه تماما فنيا، وانتهى الأمر من جانب أمريكا بوقف جميع المساعدات لكوريا، ومن جانب كوريا بالانسحاب من معاهدة منع الانتشار، وطرد المفتشين.
 
تطور البرنامج الكوري بعد الانسحاب:
 
بدءا من عام 2003، أصبحت كوريا الشمالية حرة تماما ودون أى رقابة من الوكالة الذرية أو مفتشيها، وأعادت تشغيلها لمفاعلها الـ 5 ميجاوات، كما بدأت فى استخلاص البلوتونيوم من الوقود المستهلك. ويعتقد أن كوريا الشمالية استطاعت استخلاص أكثر من 40 كجم من البلوتونيوم عالى الكفاءة، مما يمكنها من صنع من 5 إلى 8 قنابل ذرية.
 
كما بدأت فى إنشاء مصنع لتخصيب اليورانيوم، ويعتقد حاليا أنها تملك قدرات إنتاج يورانيوم عالى التخصيب، قد يمكنها من صنع أكثر من قنبلة نووية سنويا.
 
وبعد تجربة التفجير النووى الأول فى 2006، قامت كوريا بأربعة تفجيرات نووية أخرى فى 25 مايو 2009، وفى 12 فبراير 2013، وفى 6 يناير 2016، وأخيرا فى 9 سبتمبر 2016. ويبدو من تحليل هذه التجارب أن قدرات هذه القنابل متزايدة من واحد كيلو TNT فى البداية لأكثر من 20 كيلو TNT. ويعتقد أن التفجيرات الأخيرة لقنابل يورانيوم عالى التخصيب مع دعم (Booster) من المواد الخفيفة (اندماج نووى).
 
كما قامت كوريا الشمالية بتطوير كبير فى أنظمة الصواريخ الباليستية، والتى يعتقد أنها قادرة على حمل أسلحة نووية، وعلى قطع مسافات كبيرة قد تغطى المسافة من كوريا الجنوبية إلى اليابان حتى بعض مناطق الولايات المتحدة.
 
ومن الواضح أن إمكانيات الأسلحة النووية بكوريا الشمالية قد تخطت كثيرا مراحل التفاوض، أو العقوبات، أو التهديدات الأمريكية والغربية.
 
إمكانية حل الأزمة الكورية:
تخطئ أمريكا كثيرا بتصورها أن تهديداتها العسكرية، أو فرض عقوبات قد يأتى بنتيجة فعالة مع دولة عاشت أكثر من 60 عاما تحت التهديد العسكرى والاقتصادى. وواقع التهديدات الأمريكية بعمل عسكرى ضد كوريا الشمالية، أو ضرب إحدى جزرها، أو المنشآت النووية فى بيونج يانج أنها تقلق بشكل أكبر بكثير جيران كوريا الشمالية، خاصة كوريا الجنوبية واليابان، خوفا من تهور كوريا الشمالية باستخدام سلاحها النووى ضدهم، بحسبانهم أهدافا سهلة وأكثر قربا.
 
ولهذا، حذر، حديثا، رئيس كوريا الجنوبية، فى نبرة حادة موجهة للرئيس الأمريكى ترامب من أن تقوم الولايات المتحدة بأى عمل عسكرى دون استشارتهم وموافقتهم مقدما.
 
وفى تقديرى أن جميع التهديدات الأمريكية العسكرية هى للإعلام، ولا يمكن تنفيذها، لأنه ببساطة أن كوريا الشمالية قد تخطت حاجز التهديد.
ولابد من إعادة التفكير فى استخدام أساليب سلمية أخرى، أهمها فكرة التوحيد بين الكوريتين، وفتح المنافذ الإعلامية بين البلدين، مع إتاحة الفرصة للشعب فى كوريا الشمالية لمشاهدة الحضارة، والرفاهية الشخصية التى يتمتع بها الأفراد والشعوب فى الدول الأخرى. وقتها، ربما يفكر الشعب هناك فيما ينقصه، ويشاهد عالما آخر لا يعرفه طوال أكثر من 60 عاما. وهنا، إما أن يعود النظام الحالى نفسه ليتعايش مع تطورات الحياة فى العالم، أو ينفجر الشعب لتغيير النظام.

 

رابط دائم: