الضغط الحقوقي على مصر.. استقواء بالخارج أم آليات أممية مشروعة؟
6-8-2017

د. ولاء جادالكريم
* باحث وكاتب في قضايا التنمية وحقوق الإنسان، الأمين العام لمؤسسة شركاء من أجل الشفافية.
بالتزامن مع انعقاد مجلس الشراكة الأوروبية مع مصر في العاصمة البلجيكية، بروكسل، يوم الثلاثاء الموافق 25 يوليو 2017، تجددت تحركات بعض المنظمات الحقوقية، والنشطاء الحقوقيين لدعوة آليات الاتحاد الأوروبي للضغط على الحكومة المصرية من أجل إصلاح ملفات حقوق الإنسان والديمقراطية، ورهن التقدم في ملفات الدعم المالي، والتعاون الفني والأمني، وتقديم المساعدات بتبني وجهة نظر هذه المنظمات في تقييم الوضع الحقوقي المصري  
تستلزم التحركات الأخيرة أهمية مناقشة الفرق بين الخطاب الحقوقي المرتكز على فكرة "الاستقواء بالحكومات الأجنبية" بحسبانه عملا يتناقضا مع معايير السيادة الوطنية، ويحمل في طياته تشويها للأسس التي يقوم عليها العمل الحقوقي من جانب، والخطاب المرتكز على التواصل المشروع والمطلوب مع الآليات الأممية والإقليمية، في سياق حزمة الالتزامات المنبثقة عن تصديق الدولة طواعية على مجموعة من الاتفاقيات الدولية الحقوقية التي تتبناها الأمم المتحدة من جانب آخر. بعبارة أخرى، ثمة فارق بين "تسييس الملف الحقوقي وتدويله"، من ناحية، والالتزام بمبدأ "عالمية حقوق الإنسان"، بوصفه مبدأ مستقرا في الفقه الحقوقي، من ناحية أخرى . 
خطاب حقوقي مسيس  
كانت منظمة العفو الدولية قد أصدرت بيانا طالبت فيه الاتحاد الأوروبي بمناقشة قضايا حقوق الإنسان في محادثات الشراكة مع مصر. وركز بيان هذه المنظمة على ما ادعته بعدم استطاعة السلطات المصرية وقف التعذيب، على الرغم من قيام مصر والاتحاد الأوروبي بإجراء محادثات على أعلى مستوى لها منذ سنوات، وهو الأمر نفسه الذي أشارت له الشبكة الأوروبية – المتوسطية لحقوق الإنسان (الأورو-متوسطية) في بيان أصدرته في التوقيت ذاته، فضلا عن أن هذا الطرح تبناه عدد من النشطاء المصريين المقيمين في الخارج. 
 لا تنفصل هذه التحركات عن السياق الذي اختارت بعض المنظمات الحقوقية اتباعه بعد يونيو 2013، وهو السياق القائم على تجاوز الآليات الأممية، والذهاب مباشرة إلى الحكومات والهيئات السياسية في أوروبا، والولايات المتحدة، من أجل نقل تقييم محدد لأوضاع حقوق الإنسان في مصر. واتسم هذا التقييم  بتلاقيه مع تقييم آخر يسوق له تنظيم الإخوان الإرهابى، ومنابره السياسية والإعلامية في أروقة مؤسسات الحكم بالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. 
ويخلط هذا التقييم بشكل فج بين الجوانب السياسية المعتمدة على تفاصيل خصومة تنظيم الإخوان الإرهابى مع السلطة القائمة من بعد 3 يوليو 2013، والجوانب الحقوقية التي يجب أن تفهم في سياق منفصل ومتجرد عن المواقف، والأهواء، والحسابات السياسية. 
 وربما تكون جلسات الاستماع، التي عقدها البرلمان الأوروبي، أو الكونجرس الأمريكي، بمشاركة مزيج من النشطاء السياسيين والحقوقيين المصريين، على مدى السنوات الماضية، فضلا عن اللقاءات التي عقدت بين مسئولين سياسيين أمريكيين وأوروبيين، ونشطاء مصريين، تجسيدا لهذا السياق المرتبك، والذي يخلف وراءه غبارا لا يكاد ينقشع عن الحركة الحقوقية المصرية، ويساعد على خلط الأوراق، ويعطي مسوغا للأطراف غير المتعاطفة مع هذه الحركة لتوجيه سهام النقد، والتجريح، والتشكيك في منطلقاتها الوطنية. 
من يدفع الثمن؟ 
 على الرغم من أن جملة هذه التحركات لم تفض إلى تحسن في أوضاع حقوق الإنسان في مصر، ولم تؤد في النهاية إلى تغيير ملموس في أسس ومنطلقات الشراكة والتعاون بين مصر من جانب، ومجموعة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من جانب آخر، فإنها كشفت عن طبيعة اهتمامات، ورهانات، وترتيب أولويات بعض النشطاء والمنظمات الحقوقية التي تركزت مطالبها في نقاط  ستؤدي إلى ضرر مباشر للمواطن المصري، وليس لنظام الحكم. وتتمثل أهم هذه النقاط في الآتي:  
خفض أو وقف التعاون الأمني وتوريد المعدات العسكرية والشرطية لمصر . 
مراجعة التسهيلات والاتفاقيات التجارية بين الجانبين.  
إعادة النظر في حزم المساعدات المالية (وهي توجه غالبا لمشروعات ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية). 
تأتي خطورة هذه المطالب - التي يتم التعبير عنها بشكل معلن أحيانا ومستتر غالبا – من كونها ستؤثر بالسلب فى حياة المواطن المصري الذي يستفيد بشكل مباشر أو غير مباشر من استمرار التعاون بين الاتحاد الأوروبي ومصر.  
فوفقا لبيان رسمي، صادر عن الاتحاد الأوروبي، قبل عقد الاجتماع السابع  لمجلس الشراكة الأوروبية مع مصر، فإنه خلال الفترة من يناير 2015، وحتى مايو 2017 ، قدم الاتحاد الأوروبي ما يزيد على 1.3 مليار يورو في شكل منح لمصر، منها 45 %، وجهت لقطاعات التنمية الاقتصادية، والاجتماعية، و45٪ مخصصة للطاقة المتجددة، والمياه، والصرف الصحي، وإدارة النفايات والبيئة، و10٪ لتحسين الحكم، وحقوق الإنسان، والعدالة، والإدارة العامة.  
وفي عامي 2015 و2016، خصص الاتحاد الأوروبي 250 مليون يورو لمصر من كل من آلية الجوار الأوروبية (ENI)، وكذلك من آلية تسهيلات الاستثمار المقدمة من دول الجوار. كما أن حجم المساعدات المالية المقدمة من الاتحاد الأوروبي، والدول الأعضاء، والمؤسسات المالية الأوروبية إلى مصر بأشكالها المختلفة (المنح، والقروض، ومقايضة الديون)، يضع أوروبا كأول وأهم جهة مانحة في مصر مع حجم المساعدات المالية الأوروبية المستمرة لها بأكثر من 11 مليار يورو. 
 مشروعية الطرح الحقوقي  
على العكس تماما من التحرك الحقوقي "المسيس" والمراهن على مؤسسات الحكم في الدول الأجنبية، يبرز نمط آخر من التحرك الملتزم بقواعد حقوقية تحفظ السيادة، ولا تؤدي للإضرار بالمواطن، وتجعله يدفع منفردا ثمن الصراع بين السلطة ومعارضيها. يتمثل هذا النمط فيما أتاحته المنظومة الحقوقية الدولية من فرص ومسارات لمشاركة المنظمات غير الحكومية والنشطاء في الدعوة لإصلاح الأوضاع الحقوقية عبر الآليات الأممية المشروعة . 
فالمنظومة الدولية لحماية حقوق الإنسان تقوم على حزمة من الاتفاقيات التي تجعل الدولة بمجرد تصديقها عليها مطالبة بالوفاء بحزمة من الالتزامات ذات الصلة بموضوع كل اتفاقية، حيث تتم متابعة الوفاء بهذه الالتزامات من خلال ما يعرف بـ "الآليات الدولية لحماية حقوق الإنسان"، وهي مجموعة هيئات تعاقدية منصوص على تشكيلها ونظام عملها في قلب الاتفاقيات المشار إليها، بالإضافة إلى مجموعة هيئات أخرى، ينظم عملها قرارات صادرة من الجمعية العامة للأمم المتحدة. 
تتيح كل هذه الآليات فرصا ومسارات لمشاركة المنظمات غير الحكومية والنشطاء في تقييم الوضع الحقوقي في بلدانها، والتواصل مع هذه الآليات، في إطار من الشفافية، والعلنية، والموضوعية، والاستناد إلى أدلة لا تقبل الشك، وفي سياق حوار بناء وإيجابي بمشاركة الأطراف الحكومية وغير الحكومية والأممية، يفضي إلى تبني حزمة من التوصيات، تسهم الأطراف الثلاثة في الوفاء بها. 
إن المنظومة الأممية لحماية حقوق الإنسان، بهذا المنظور، لا يمكن النظر لها كآلية سياسية بقدر عدّها آلية حقوقية صرفا. وبرغم أن السياسة تتسرب إليها أحيانا، بحكم طبيعة ميزان القوى في العالم، واختلال منظومة القيم لدى كثير من صناع ومتخذي القرار، فإنها تبقي أقل تسييسا، وأكثر مشروعية من أي سياق آخر يقوم على استنفار الضغط السياسي والاقتصادي، ويحتكم إلى منطق القوة في العلاقات الدولية. 
خسائر التسييس  
وفي ضوء القراءة المحايدة للأوضاع الداخلية والدولية، يمكن القول إن قضية حقوق الإنسان في العالم أحوج ما تكون لإبعادها عن السياسة، والخلاص بها من أتون التناحر الأيديولوجي، وحسابات المصالح الاقتصادية، والعسكرية، لأن إبقاء الدعوة لتحسين أوضاع حقوق الإنسان  طرفا في معادلة سياسية لن يؤدي إلا إلى خسارة المواطن ذاته، وسكب مزيد من البنزين تحت أطراف الحركة الحقوقية المشتعلة بطبيعتها. 
فليس هناك منصف يرى أن أوضاع حقوق الإنسان في مصر في أفضل حالاتها، فالطريق لا يزال طويلا، والتحديات جسيمة، وهناك إصلاحات كبيرة يجب تبنيها، والدعوة باستمرار لدمجها في سياق السياسات الاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية، ولكن يجب أن يتم ذلك في سياق وطني، وعلى أرضية وطنية خالصة.  

رابط دائم: