أزمة صانعي الأزمات في الدوحة
14-6-2017

د. وحيد عبد المجيد
* مستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام
 
ليس غريباً أن يجد من انخرطوا في صنع الأزمات في المنطقة أو إشعال النار فيها أنفسهم في أزمة أكبر من أقصى ما كان بإمكانهم أن يتخيلوه. تصور حكام الدوحة أن طول صبر الدول التي استهدفوها يعني نجاحهم في خداعها، أو التحايل عليها. وتخيلوا أن بإمكانهم امتصاص الغضب الذي ينتج عن مواقفهم وممارساتهم بالطريقة نفسها في كل مرة، أي عبر إجراءات شكلية لا تُغيَّر محتوى سياساتهم.
 
لذلك تمادوا في هذا الاتجاه دون وعي بأنهم يتسببون كل يوم في زيادة الهوة التي تفصلهم عن أبرز من يُفترض أنهم شركاؤهم في مجلس التعاون الخليجي، وليس فقط عن مصر التي ذهبوا بعيداً في الإساءة إليها، رغم أنها لم تفكر يوماً في إلحاق أي أذى بهم، وصبرت طويلاً على ممارساتهم التي بلغت ذروتها في السنوات الأربع الأخيرة.
 
وبدلاً من أن تكون القمة الإسلامية الأميركية، التي احتضنتها الرياض في 21 مايو الماضي مناسبةً لكي يراجع حكام الدوحة سياستهم في هذا المجال، ويتحولوا من صانعي أزمات إلى مشاركين في حلها، أثار المنهج الجديد الشامل الذي نص عليه الإعلان الصادر عنها قلقهم وذهب بما بقي من صوابهم. فقد أزعجهم التحول إلى مواجهة الإرهاب بكل مراجعه وكل جماعاته من دون انتقائية، فيما لم تكتف قطر بدعم جماعات إرهابية «سنية»، بل اتجهت إلى مساعدة ميليشيات «شيعية» لا تقل إرهاباً عنها ضمن تقارب متزايد مع إيران. وفي هذا السياق جاءت كلمة الأمير تميم التي نقلت وكالة الأنباء القطرية محتوياتها، ثم أنكرتها، بينما ظل خطاب الدوحة الرسمي يؤكد مضمونها.
وكان طبيعياً أن تقرع الدول التي تعلم أكثر من غيرها عن ممارسات حكام الدوحة جرس إنذار أخير لعلهم ينصتون أخيراً. لكنهم سعوا مجدَّداً للتحايل، وبددوا فرصة الوساطة الكويتية، ولم يصدر عنهم ما يفيد رفض المواقف التي وردت في كلمة أميرهم إذا كانت مفبركة حقاً، وليس مجرد نفي صدورها عنه. لذا لم يعد أمام هذه الدول إلا أن تتحمل مسؤولياتها في مواجهة تهديد يتعذر استمرار الصبر عليه وتفرض عقوبات صارمة على قطر.
 
وهكذا صار صانعو الأزمات ومحترفو تصعيدها في أزمة خانقة. وأصبح نظام الحكم في الدوحة معزولاً جغرافياً واقتصادياً، وليس سياسياً وديبلوماسياً فقط، في حالة قصوى من حالات الحصار الإقليمي والدولي، بعد أن تصور أن إشعال الأزمات في المنطقة يمكن أن يتيح لقطر دوراً لا تقدر عليه، ولا تملك إمكاناته.
 
ولا يعود ذلك إلى أنها إمارة صغيرة المساحة وقليلة السكان. فلم يعد الحجم بهذا المعنى الجغرافي الديموغرافي معياراً رئيسياً في قياس أهمية أية دولة ومكانتها وقدرتها على التأثير. كان هذا معياراً مهماً حتى عدة عقود مضت، أي عندما كانت الجغرافيا السياسية محدداً رئيسياً، بل الرئيسي في بعض نظريات العلاقات الدولية والإقليمية. لم تنته أهمية الجغرافيا السياسية، لكنها تقلصت في عصر ثورة المعرفة والاتصالات، بعد أن ازدادت أهمية القدرة على الابتكار والتطوير والإنجاز اعتماداً على أدوات هذه الثورة، واستناداً إلى وجود حكم رشيد يعمل من أجل توفير مقوماتها. لذلك تمكنت دول محدودة المساحة وقليلة السكان من تحقيق طفرات كبرى أتاحت لها التفوق على أخرى تكبرها أضعافاً، وباتت تحتل مراكز متقدمة في المؤشرات الدولية المعتمدة التي تقيس إنجازات الدول والتقدم الذي تحققه كل منها في مختلف المجالات.
 
معضلة نظام الحكم في قطر إذن ليست في صغر المساحة وقلة السكان، بل في صغر العقل وقلة المعرفة وعدم إدراك كيفية تحقيق الدور الذي يتطلع إليه، عن طريق تنمية القوة الناعمة علمياً ومعرفياً وثقافياً، وخلق منظومة اقتصادية إدارية حديثة، وبناء نخبة دولة حقيقية متعلمة ومدربة، اعتماداً على استخدام رشيد لموارد نفطية كبيرة أُسيء توجيهها، وتم تبديد قدر معتبر منها في صنع أزمات في بعض البلدان وابتزاز بعضها الآخر، وتمويل منظمات تُمثِّل خطراً على الأمن القومي العربي، وإنشاء وسائل إعلام تعمل أبواقاً وأذرعاً له، وشراء ولاء مرتزقة يُجسدون حالة يمكن أن نُطلق عليها «مثقفين وإعلاميين للإيجار» لأداء وظائف علنية وسرية يُكلفون بها.
 
وهكذا تنطوي قصة نظام الحكم في الدوحة خلال العقدين الأخيرين على درس يفيد أن الدولة لا تستطيع القيام بدور مؤثر يحقق لها مكانة إذا انتهجت أساليب العصابات، واعتمدت على أدوات عفا عليها الزمن. وهذا درس مهم للسياسيين والديبلوماسيين، كما للباحثين والمتخصصين في دراسة النظم السياسية، والعلاقات الإقليمية والدولية.
 
-----------------------
* نقلا عن الاتحاد الإماراتية، 14-6-2017.

رابط دائم: