الارتدادات المحتملة للأزمة القطرية على الصراع الليبي
13-6-2017

د. خالد حنفي علي
* باحث في الشئون الإفريقية
لم تضع أزمة مقاطعة دول عربية (مثل: مصر، والسعودية، والإمارات، والبحرين) للنظام القطري أوزارها بعد، لاسيما مع رفض الدوحة تعديل سياساتها الإقليمية، خاصة إزاء قضية "تمويل الإرهاب". إلا أن تأثيرات تلك الأزمة أخذت طابعا ارتداديا باتجاه مناطق الصراع العربية، خاصة ليبيا، التي عرفت -ولا تزال- منذ سقوط القذافي في عام 2011 استقطابا إقليميا، بحيث بات لكل فاعل داخلي ظهير خارجي يؤثر في خياراته سلمًا وحربًا في هذا البلد.
 
 فبينما سعت كل من قطر، وتركيا، والسودان لتمكين تيارات وميليشيات الإسلام السياسي والمسلح في هذا البلد، كجزء من الرهان على صعود التيار الديني في مرحلة ما بعد الثورات 2011، واجهت مصر والإمارات ذلك الأمر منذ صيف عام 2014، عندما دعمت تحالفات شرقي ليبيا (مجلس النواب، والجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر)، وذلك بهدف استعادة مؤسسات الدولة، ومكافحة انتشار الجماعات الإرهابية التي باتت تأثيراتها عابرة للجوار الإقليمي لليبيا.
 
من هنا، يمكن فهم إسراع الحكومة المؤقتة في شرق ليبيا (مدعومة بمجلس النواب في طبرق، والجيش الوطني الليبي) بالاصطفاف مع الدول العربية الأربع في قراراها بمقاطعة قطر يوم الخامس من يونيو الجاري، على أنه جزء من إدارة ديناميات الصراع مع التحالفات الإسلامية والمصراتية المضادة، وكذلك حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج التي أفرزتها اتفاقية الصخيرات منذ ديسمبر 2015، حيث اعتمد السراج بالأساس على تحالفات ميليشياوية منذ دخولها طرابلس في مارس 2016.
 
وبموازاة إصدار تلك الدول الأربع لقائمة الإرهاب المرتبطة بقطر، والتي ضمت سرايا الدفاع عن بنغازي، وخمس قيادات إسلامية ليبية، اقترحت لجنة برلمانية بمجلس النواب قائمة إرهاب محلية ليبية شملت أسماء 75 إرهابيًّا، و9 كيانات إرهابية مرتبطة بالتمويل القطري. وضمت القائمة المحلية مسئولين ووزراء سابقين، وقيادات من المجلس الأعلى للدولة، وجماعة الإخوان المسلمين وذراعها الحزبية (العدالة والبناء) في غرب ليبيا، بخلاف ميليشيات مسلحة أخرى، مثل: مجلس شورى ثوار بنغازي، ولواء الصمود، وغرفة عمليات ثوار ليبيا، وقوات درع ليبيا، وغيرها.
 
تأثيرات الأزمة 
 
تطرح تحركات تحالفات شرق ليبيا الضاغطة على الدور القطري وحلفائه، فضلا عما تتعرض له سياسات الدوحة من انحسار إقليمي عام، جملةً من الارتدادات المحتملة التي لا تطال فحسب موازين القوى الداخلية، وإنما تمتد لتشمل التفاعلات الإقليمية والدولية حول الأزمة الليبية. ويمكن طرح أبرزها على النحو الآتى:
 
أولا- ترجيح كفة موازين القوى الميدانية لمصلحة تحالفات الشرق الليبي، ذلك أن الإضعاف المحتمل للسياسة القطرية تجاه القضايا الإقليمية، ومنها ليبيا، قد يصب في ترجيح كفة موازين القوى الداخلية لصالح الجيش الليبي وتحالفاته في الشرق، مقارنة بمنافسيهم في غربي وجنوب هذا البلد، لا سيما وأن بعضهم يتلقون دعمًا سياسيًّا وتمويلاً من نظام الدوحة. 
 
يتعزز هذا الاحتمال في ظل ميل موازين القوى الميدانية إلى جهة الجيش الوطني الليبي الذي طور سيطرته من الشرق ومناطق الهلال النفطي خلال عام 2016 باستثناء درنة، إلى الوسط والجنوب، ولا سيما الجفرة، وسبها، حيث شهدت المدينتان الأخيرتان سيطرة للجيش الليبي على مواقع وقواعد استراتيجية مع مطلع شهر يونيو 2017.
 
يأتي ذلك في وقت تعاني فيه تحالفات الغرب الليبي تفككًا داخليًّا. فالعاصمة طرابلس تشهد منذ دخول السراج لها في العام الماضي نزاعًا للسيطرة عليها بين ميليشيات وتحالفات موالية لحكومة الوفاق والمجلس الأعلى للدولة، وأخرى تابعة لحكومة الإنقاذ الوطني السابقة التي انبثقت عن المؤتمر الوطني العام المنقسم على نفسه منذ إقرار اتفاق الصخيرات. أضف إلى ذلك، تراجع قوة مصراتة نسبيًّا في الآونة الأخيرة، خاصة مع انسحاب قوتها الثالثة من الجنوب إثر أزمة قاعدة براك الشاطئ في جنوب ليبيا في مايو الماضي. 
 
وقد أعقب تلك الأزمة خلافات بين مصراتة وسرايا الدفاع عن بنغازي، إذ رفضت الأولى عودة عناصر الثانية للمدينة خوفًا من انتقام الجيش الوطني الليبي، لا سيما إثر مقتل أكثر من مئة مقاتل له في قاعدة براك الشاطئ وإن كان قد استولى عليها لاحقًا. الأهم من ذلك أن حكومة السراج المدعومة أمميًّا وأوروبيًّا لم تنجح في تحويل انتصار العام الماضي على تنظيم "داعش" في سرت -بدعم جوي أمريكي وتحالفات ميليشاوية من قوات البنيات المرصوص- في بناء قوة أمنية موحدة في الغرب الليبي.
 
ثانيًا- محاصرة همزات الوصل القطرية مع القوى الإسلامية والميليشيات المسلحة في ليبيا، فحال نجاح قرار مقاطعة قطر في وقف أو الحد من تمويلاتها للميليشيات المسلحة والقوى السياسية الإسلامية في غربي وجنوب ليبيا، فإن ذلك يعني إضعاف مصادر قوة هذه الفواعل في التفاعلات السياسية والميدانية. 
 
فبالنظر إلى قائمة الإرهاب المرتبطة بقطر التي أصدرتها كلٌّ من مصر، والسعودية، والإمارات، والبحرين، فإنها ضمت قيادات ليبية معارضة لحفتر وتحالفات الشرق عمومًا، مثل المفتي السابق الصادق الغرياني، وعبدالحكيم بلحاج، رئيس حزب الوطن السلفي، وأحد رجالات قطر الأساسيين منذ سقوط القذافي، والشيخ علي الصلابي، الذي يمثل همزة الوصل الإخوانية والتمويلية بين الدوحة وميليشيات وتيارات الإسلام السياسي، بخلاف أخيه إسماعيل الصلابي الذي أسس عدة ميليشيات مسلحة إرهابية، منها: سرايا الدفاع عن بنغازي، وراف الله السحاتي، وكتائب 17 فبراير، أو كما يتندر عليها الليبيون"17 فيراري" بسبب الدعم القطري السخي. أضف إلى ذلك مهدي الحاراتي، نائب رئيس المجلس العسكري في طرابلس، والمتهم بنقل إرهابيين من داخل ليبيا إلى سوريا للقتال ضد نظام بشار الأسد في سوريا.
 
ثالثًا- دفع القوى الإقليمية إلى الإسراع في استيعاب حفتر في اتفاق الصخيرات المتعثر، حيث إن انحسار الدور القطري في ليبيا سيؤثر في سياسات قوى إقليمية أخرى، مثل الجزائر وتونس اللتين تملكان علاقات وثيقة مع فصائل وميليشيات إسلامية في غربي ليبيا مرتبطة أساسًا بالتمويل القطري وخاصة بلحاج.
 
فميل موازين القوى لمصلحة تحالفات الشرق الليبي في منطقتي الجنوب والغرب، اللتين تُمثلان أهمية استراتيجية للأمن الجزائري والتونسي، قد يؤدي إلى إسراع تلك القوى الإقليمية باستيعاب حفتر ضمن الشق الأمني في اتفاق الصخيرات المتعثر لضمان ألا يتمدد نفوذه باتجاه العاصمة طرابلس، خاصة أن معضلات ذلك الاتفاق، والتي عرقلت نيل حكومة الوفاق لثقة مجلس النواب، تركزت في المادة الـثامنة من باب الأحكام الإضافية في الاتفاق، والتي نقلت صلاحيات المناصب الأمنية لمجلس رئاسة الوزراء، بما عنى مباشرة تهميش حفتر، وهو ما رفضته تحالفات الشرق.
 
يزداد ذلك التأثير الإقليمي في ظل مخاوف كلٍّ من الجزائر وتونس من تغير قواعد اللعبة الإقليمية في ليبيا لمصلحة مصر والإمارات، التي عززت قوة حلفائهما في الشرق والوسط والجنوب، لاسيما أن القاهرة أقدمت على القيام بضربات جوية مصرية في درنة والجفرة، ردًّا على حادث المنيا الإرهابي في الـ26 من مايو 2017. وتجلى ذلك القلق المغاربي، عندما اجتمع وزراء خارجية مصر، وتونس، والجزائر بعد أكثر من أسبوع من الضربات الجوية المصرية في العاصمة الجزائر، ليخرجوا ببيان ثلاثي يؤكد وحدة ليبيا، وإجراء حوار سياسي شامل، ورفض التدخل الخارجي.
 
رابعًا- اتجاه السياسات الغربية لتكريس التوازن بين السراج وحفتر، فمع إضعاف تحالفات غرب ليبيا، سواء عبر تقدم الجيش الليبي، أو إضعاف النظام القطري، فقد يُعزز ذلك من السياسات الغربية لبناء صيغ توازنية بين حفتر والسراج. فالأوروبيون الذين ظلوا يراهنون على دعم حكومة السراج في غرب ليبيا، بغية أن تشكل ظهيرًا أمنيًّا لهم في حماية البحر المتوسط من تهديدات الإرهاب والهجرة غير الشرعية، باتوا اليوم مقتنعين بأنه يصعب تجاهل حفتر في معادلة القوة الليبية. إذ إن تقدم الجيش الليبي باتجاه الجنوب والوسط، واقترابه من طرابلس والغرب الليبي عمومًا، يشكل تهديدًا لمركز ثقل المصالح الأوروبية، خاصة البريطانية، والإيطالية. فالأخيرة كانت قد عقدت اتفاقًا مع السراج في فبراير 2017 للحد من تهديدات الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط. 
 
أضف إلى ذلك أن تداعيات الفوضى والميليشيات في غربي ليبيا طالت بريطانيا ذاتها، لاسيما مع عملية مانشستر الأخيرة التي نفذها ليبي يُدعى سلمان العبيدي، وبدا لاحقًا أن تحضيراته للعملية الإرهابية انطلقت بالأساس من طرابلس.
 
ومما يدعم الاتجاه الأوروبي التوازني سياسة ترامب التي برغم غموضها، فإن المؤشرات الأولية تشير إلى أنها منفتحة على المعسكرين في شرق وغرب ليبيا. صحيح أن واشنطن تؤيد تقدم الجيش الليبي في مكافحة الإرهاب في شرق ليبيا، إلا أنها وازنت ذلك بالتواصل مع حكومة السراج. وبدا ذلك جليًّا في زيارة السفير الأمريكي بيتر بودي، والجنرال توماس والدهاوز قائد القيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم)، لطرابلس يوم 23 من مايو 2017، إذ قال السفير الأمريكي: إن واشنطن ملتزمة تجاه حكومة الوفاق والمصالحة في ليبيا. وامتدح في الوقت نفسه هزيمة داعش على يد قوات موالية لحكومة السراج.
 
الأمر ذاته بالنسبة لروسيا. فعلى الرغم من ميلها لحفتر كجزء من سياستها في استعادة النفوذ والمصالح التي فقدتها إثر سقوط نظام القذافي، فإنها أعطت إشارات بين حين وآخر على تواصلها مع قيادات الغرب الليبي، حتى إن السراج طالبها من قبل في فبراير 2017 بلعب دور الوسيط، لا سيما مع ما تملكه من نفوذ واتصالات مع تحالفات شرق ليبيا.
 
فرص وقيود:
 
قصارى القول: إن الإضعاف المحتمل لسياسة النظام القطري في ليبيا، وتفكيك تحالفاته في هذا البلد قد يمثلان فرصة لتحالفات الشرق الليبي في تعزيز قوتها في أي تفاوض قادم على تعديل اتفاق الصخيرات المتعثر، من جهة، ويدفعان القوى الإقليمية والدولية للضغط على حكومة السراج وحلفائه في غرب ليبيا للقبول بتعديلات الاتفاق من جهة أخرى، خشية أن توسع قوة حفتر باتجاه الغرب يعني دخول الصراع الليبي في مرحلة أكثر تعقيدًا، وفوضى قد لا تستطيع القوى الغربية مجابهتها.
 
 إلا أن تلك الارتدادات المحتملة لأزمة مقاطعة قطر على موازين القوى في الصراع الليبي ترتبط، في الأخير، من حيث مدى حدتها وتجلياتها في ديناميات هذا الصراع، بمآلات تسوية الأزمة القطرية ذاتها، وما إذا كان النظام في الدوحة سيرضخ كليًّا أم جزئيًّا، أم سيتوصل لتسوية تعادلية في مسألة تغيير سياساته الإقليمية؟.

رابط دائم: