احتمالات مفتوحة: من يربح جولة الإعادة في انتخابات الرئاسة الفرنسية؟
4-5-2017

د. حازم محفوظ
* مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

يتوجه الناخبون الفرنسيون يوم 7 مايو 2017 إلى صناديق الاقتراع في جولة حاسمة للانتخابات الرئاسية، وذلك بعد أن انتهت الجولة الأولى في 23 من أبريل الماضي بصعود الوسطي إيمانويل ماكرون، مرشح "إلى الأمام"، بنسبة 24.01%، ومارين لوبان، مرشحة حزب الجبهة الوطنية اليمينية، بنسبة 21.30%.

يرقى هذا الوضع إلى حد الصدام بين رؤيتين متعارضتين تماماً، حيث لا يتفق المرشحان على أي موقف أو وجهة نظر مشتركة، خاصة في المجالين الاقتصادي والأمني. ويبدو أن الفارق النسبي الضئيل بين المتسابقين بمنزلة زلزال سياسي، لأنه يعيد تشكيل مجمل المشهد السياسي الفرنسي، والذي قد يحدد مستقبل أوروبا كلها.

وسيطرت المخاوف الأمنية على الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية بعد تفكيك خلية إرهابية في 18 إبريل الماضي في مدينة مرسيليا جنوب فرنسا كانت على وشك تنفيذ مجموعة من العمليات الإرهابية العنيفة خلال العملية الانتخابية، وفق بيان المدعي العام لباريس، فرانسوا مولانس، إضافة إلى هجوم الشانزلزيه الذي وقع قبل الجولة الأولى بثلاثة أيام.

ولم تمنع تلك المخاوف أن تأتي نسب المشاركة في الانتخابات في معدلاتها العادية، حيث شارفت على 80% بعد أن دفع وزير الداخلية ماتياس فيكل بأكثر من 50 ألفا من قوات الشرطة، و7 آلاف من قوات الجيش لتأمين الجولة الأولى، إضافة إلى الجهود التي قامت بها البلديات من خلال تعبئة الشرطة البلدية. وبموازاة ذلك، قرر مجلس الدفاع تجهيز وحدات تدخل سريع  لمواجهة أي محاولة للقيام بعملية إرهابية.  

رغبة التغيير

تشير نتائج الجولة الأولى إلى أن فرنسا تريد التغيير، وأن هناك أكثرية من الناخبين قررت الخروج من عباءة الحزبين التقليدين، إذ إنها المرة الأولى منذ نصف قرن تقريباً التي تفقد فيها الأحزاب الحاكمة جاذبيتها في الانتخابات الفرنسية.

فلقد برز غياب المرشحين التقليديين المتمثلين في اليمين الكلاسيكي، واليسار الاشتراكي، وذلك بعد أن أسقط الناخبون المرشح الذي كان أوفر حظاً، فرانسوا فيون، بعد الفضيحة التي طالته وأسرته، حيث حصل على نسبة 20.01%.

كما أسقط الناخبون أيضاً بنوا آمون، مرشح الحزب الاشتراكي، الذي تفتت حزبه، حيث حصل على نسبة 6.36%. أما جان لوك ميلانشون، فقد حقق اختراقاً غير مسبوق، وحصل على نسبة 19.58%، وتحول إلى جزء أصيل من المشهد السياسي، بعد أن كان اليسار الراديكالي طرفاً هامشياً، ولكنه لم يتأهل إلى جولة الإعادة، في حين لم يحصد المرشحون الستة الباقون إلا على 8.74%.

اتساع تأييد ماكرون

ولأن مستقبل فرنسا على المحك، فقد بدأت حركة واسعة من مجمل الفاعلين، يساراً ويميناً، بوضع حاجز انتخابي كبير لقطع الطريق أمام مرشحة أقصى اليمين التي تحاول– حسب زعمهم- تقسيم المجتمع بين أصلاء ووافدين، ومسيحيين ومسلمين.

ومن ثم، قام معظم مرشحي الرئاسة الذين لم يحالفهم الحظ في الجولة الأولى بتوجيه ناخبيهم للاقتراع لمرشح إلى الأمام إيمانويل ماكرون، حيث رأى البعض أنه ليس هناك من خيار للابتعاد عن الانقسام والفوضى داخل المجتمع سوى اختيار ماكرون.

وفي السياق نفسه، حث الرئيس فرانسوا أولاند-المنتهية ولايته-الناخبين على دعم ماكرون بالتصويت له في الجولة الثانية، ووجد نفسه بالتالي أمام ضرورة إعادة التنبيه من تداعيات أن تكون مرشحة اليمين المتطرف خليفته، حيث يعد وصولها إلى رأس السلطة بمنزلة الخطر الذي سوف يعصف بالجمهورية الفرنسية، ومن ثم ستفقد وسطيتها وتوجهاتها الأوروبية المعهودة.

ولم يختلف موقف رئيس الوزراء الفرنسي برنارد كازانوف، المنتمى للاشتراكيين، الذي جدد دعوته للتصويت لمصلحة ماكرون. أما الرئيس السابق ساركوزي، فقد أعلن هو الآخر أنه سيصوت لماكرون، وشدد على أن التصويت لمصلحة مرشح "إلى الأمام" لا يعنى تبنيه نهجه وبرنامجه الانتخابي، ولكن فقط لأن البديل سيكون مرشحة اليمين المتطرف. وعلى الجانب الآخر، اتهمت مرشحة أقصى اليمين مجمل الطبقة السياسية بأنها مجموعة من المتواطئين للحفاظ على مصالحهم على حساب مصالح الفرنسيين ومشكلاتهم.

شكوك الناخبين

اللافت أنه ليس من بين المرشحين الرئاسيين في جولة الإعادة من يستطيع أن يقنع معظم الناخبين بأنه الأجدر لتولي رئاسة الجمهورية الفرنسية، وهذا الطرح يؤيده أحدث استطلاعات الرأي، حيث شكك 43% من الناخبين في قدرة المرشحين الرئاسيين على الحكم.

ومما يؤكد هذا المنحى المظاهرات الشبابية التي خرجت في 27 أبريل الماضي في وسط باريس احتجاجاً على الانتخابات حاملة لافتات كتب عليها: "لا نريد لوبان ولا ماكرون"، "لا نريد مرشحة اليمين المتطرف ولا مرشح الصفقات المالية الكبيرة".

وإن كان عدد كبير من الناخبين، ولظروف الموازنة مع مرشحة أقصى اليمين، يرى أن مرشح "إلى الأمام" هو الأوفر حظاً، حيث بنى معظم أطروحاته على تحسين أخلاقيات الحياة السياسية، والتوفيق بين الحرية والحماية، ويرى البعض أنه قادر على ردم هوة الانقسامات الاجتماعية الفرنسية.

بالإضافة لذلك، فإن خبرات ماكرون العملية قد تصب في مصلحة بث الدينامية الاقتصادية في فرنسا. وبرغم ما يقال عنه أنه مرشح الأغنياء، وأصحاب البنوك، والعولمة الجامحة، فإنه دعا إلى إصلاحات عدة لمواجهة البطالة، كما اقترح تدابير تصب في مصلحة الأحياء الفقيرة، بخلاف أن برنامجه بات يستهدف مساعدة الطبقات الوسطى، وذلك إثر مطالبة نقابة "الكونفيدرالية الفرنسية الديمقراطية للعمل "بأن عليه أن يراعى الذين يعدون أكثر هشاشة".

ومن ثم، يتمثل التحدي الأكبر أمام ماكرون في قدرته على التقرب من الطبقتين الدنيا والوسطى لكسر الصورة النمطية المروجة عنه. أما بالنسبة لمكافحة الإرهاب، فالمرشح الوسطي ماكرون يؤكد أن تلك المكافحة لا تعني التحامل على فئة معينة من المواطنين بسبب انتمائهم الديني، بل خوض المواجهة في الداخل الفرنسي عبر تعزيز قدرات الأجهزة الاستخباراتية.

انعدام اليقين

تعطي المعطيات والمؤشرات الأفضلية لفوز كبير لإيمانويل ماكرون بنسبة 65%، خاصة بعد حصوله على دعم كبير من اليسار واليمين، وذلك لدفاعه عن قيم ومبادئ الجمهورية الفرنسية، إضافة إلى دعم آخر من المنحدرين من أصول عربية ومسلمة، والذين يشكلون 5% من الناخبين (صوت 37% منهم في الجولة الأولى لمصلحة ميلانشون، و24% منهم لمصلحة ماكرون).  

ومع ذلك، فإن هنالك حالة من انعدام اليقين - خاصة بعد تصريح أولاند بأن فوز ماكرون ليس مضموناً إضافة إلى تأكيد البعض امتناعهم عن التصويت- وهو ما قد يفتح الباب أمام احتمال انتصار مارين لوبان التي قدمت نفسها على أنها مرشحة الشعب، واختارت شعاراً جديداً هو "اختيار فرنسا" لجذب كل الوطنيين من اليمين واليسار.

وتحاول مرشحة أقصى اليمين تبسيط المعادلة من خلال وضع حد للهجرة الشرعية، وطرد من تسميهم بالأجانب، ومكافحة المد الإسلامي الراديكالي، والتمسك بالهوية العلمانية الفرنسية، والانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وتعليق اتفاقية شنجن، إضافة إلى العودة للفرنك الفرنسي بعيداً عن اليورو، الذي ربما يؤدى إلى أزمة كبرى، لأن الاتحاد الأوروبي حينئذ لن يكون قادراً على الصمود كمنظومة اقتصادية من دون ثاني أكبر قوة اقتصادية في أوروبا، بعد ألمانيا. لذا فيبدو أن فرنسا لن تقرر مصيرها فحسب، بل مصير الاتحاد الأوروبي كله.  

ويرى أحد خبراء الاقتصاد أن فرنسا ستكون مضطرة لإعلان إفلاسها، إذ لن يقبل أحد تسديد الديون بالفرنك الفرنسي، كما أن البنوك وشركات التأمين هما الآخران سيشهران إفلاسهما، لأن ديونهما في الغالب الأعم بالعملات الأجنبية. وهذا ما جعل لوبان في خطاباتها الأخيرة تنحي جانباً أي إشارة لليورو، لكي تتجنب استفزاز الناخبين المؤيدين له. ولذا، يرى البعض أن زعيمة الجبهة الوطنية تطرح أفكاراً براقة لا تستند إلى برنامج واقعي، ولا تحمل أي مسئولية، بل لم تتكبد عناء شرح ما تنتوي فعله على أرض الواقع للوفاء بوعودها الانتخابية.

تحركات مضادة

على أية حال، تحاول زعيمة حزب الجبهة الوطنية اليمينية تقويض فرص ماكرون من خلال الانتقال بحملتها إلى جنوب فرنسا، وتصوير نفسها وكأنها الحامية للفرنسي البسيط. ويرى البعض أن لوبان تلعب على وتر البطالة، وتدافع عن حقوق العمال والموظفين الفرنسيين بشكل عام، خاصة أن هناك نحو 7 ملايين عاطل عن العمل، و9 ملايين فقير. ومع ذلك، تستقبل فرنسا 200 ألف أجنبي سنوياً. ولذا، تطرح لوبان نفسها على أنها مرشحة الفرنسيين الذين لا يريدون أن يخسروا وظائفهم، وقدرتهم الشرائية.

ويبدو أن هذه الأفكار والأطروحات، بل والزخم الحادث من مرشحة أقصى اليمين، قد يزيد من التأييد لها، حيث باتت تجد أصداءً إيجابية لدى جزء من الرأي العام، خاصة بعد التحالف بينها وبين المرشح الخاسر في الجولة الأولى نيكولا دوبون إنيان، رئيس حزب "انهضي يا فرنسا"، وتعهدها له بتعيينه رئيساً للوزراء، حال انتخابها رئيسة، وذلك في مسعى لجذب من صوتوا له.

وفي لفتة ذكية، قالت لوبان في مؤتمر صحفي بباريس، وإلى جانبها دوبون إنيان "سوف نشكل حكومة وحدة وطنية تجمع بين من اختارهم الناس لجدارتهم وحبهم لفرنسا". بل إنها أعلنت أيضا في وقت سابق تنحيها عن رئاسة حزب الجبهة الوطنية، حتى تكون فوق الاعتبارات الحزبية، في محاولة منها لكسب ود من صوتوا للمرشحين الخاسرين في الجولة الأولى، خاصة من منحوا أصواتهم للمرشحين فرانسوا فيون، وجان جاك ميلانشون، اللذين جاءا في المرتبتين الثالثة والرابعة على التوالي في الجولة الأولى.

وبرغم أن التحالف والاتفاق بينها وبين دوبون لا يغير من مسار المعركة الانتخابية بشكل ملموس، خاصة أن دوبون لم يحصل في الجولة الأولى سوى على نسبة 4.7%، فإن أهمية هذا التحالف تكمن في كونه أدخل في ذهن الناخب الفرنسي أن الطريق لم يعد موصداً أمام مرشحة أقصى اليمين، كما أنها لم تعد تخيف الفرنسيين.

وهذا ما أكده أحد استطلاعات الرأي، حيث ارتفعت نسبة نيات التصويت للوبان من 35% إلى 41%. وفي المقابل، تراجع ماكرون من 65% إلى 59%، مما يعنى أنه على عكس منافسته في حركة تنازلية. بالإضافة إلى ذلك، قام مرشح الجولة الأولى جان جاك ميلانشون برفض الدعوة لمناصريه للتصويت لماكرون، رغم الانتقادات والضغوط التي مارسها عليه كل من اليمين واليسار لإعادة النظر في ذلك القرار.

وفي محاولة لاستمالة ميلانشون وأنصاره، قال ماكرون في لقاء تليفزيوني: "إن الامتناع عن تحديد موقف، ورفض الاختيار بينه وبين لوبان يسديان خدمة للأخيرة"، مما جعل مرشح اليسار الراديكالي ميلانشون يقف في وجه لوبان، حيث قال: "إن الكل يعلم أنني لن أصوت للجبهة الوطنية"، ولكنه يرفض في الوقت نفسه أن يطلب من مناصريه التصويت لمرشح معين. ويبدو أن المصير الانتخابي لكل من لوبان، وماكرون سوف يقرره ناخبو اليمين التقليدي، واليسار المتشدد.

وإن كانت المناظرة التليفزيونية، التي جرت بين ماكرون ولوبان في الثالث من مايو 2017 ، قد أعطت الأول فرصا أكبر نسبيا من الثانية لدى الناخبين. إذ ذكرت شبكة "بي إف إم تي في" الفرنسية أن 63 % من المستطلعة آراؤهم قالوا إن مرشح الوسط كان أكثر إقناعا من منافسته.

احتمالات مفتوحة

أخيراً يمكن القول: إذا كانت مرشحة حزب الجبهة الوطنية اليمينية تحاول توسيع قاعدتها الانتخابية، عبر الخطاب الشعبوي، واستغلال حالة الخوف من العمليات الإرهابية، فإن محاولة إقناع الناخب الفرنسي بمرشحة أقصى اليمين لوبان لن تكون مستحيلة. وإن كان هذا لا يعني انتصارها يقيناً، وإنما يعني فقط أنه ليس مستبعداً، وربما تحدث مفاجآت في اللحظة الأخيرة ترجح كفة أحد المرشحين.

وعلى أي وجه جاءت حصيلة الانتخابات، فإن الذي سيصل إلى قصر الإليزيه في 7 مايو سيلاقي مشروعه السياسي صعوبات كبرى، وربما سيكون عاجزاً عن توفير أكثرية برلمانية يستند إليها، بحيث تؤمن الاستقرار السياسي لفرنسا في السنوات الخمس القادمة، خاصة المرشح الوسطى ماكرون، الذي حدد موقعه بأنه ليس من اليمين، ولا من اليسار.


رابط دائم: