إعادة إنتاج الفشل‮: لماذا تديم مشاريع إعادة البناء"سراب الدولة"في الشرق الأوسط؟
7-5-2017

مالك عوني
* مدير تحرير مجلة السياسة الدولية، كاتب وباحث مصري في العلاقات الدولية، مؤسسة الأهرام
أثبتت تطورات الأحداث في‮ ‬منطقة الشرق الأوسط،‮ ‬منذ‮ ‬غزو العراق في‮ ‬عام2003،‮ ‬وبشكل أكثر جلاء وإلحاحا،‮ ‬عقب الانتفاضات الشعبية،‮ ‬والاضطرابات والصراعات الحادة،‮ ‬التي‮ ‬تفجرت في‮ ‬المنطقة منذ عام‮ ‬2011،‮  ‬أن الدولة لا تزال مهمة وأساسية لأداء عدد من الوظائف الجوهرية التي‮ ‬لا‮ ‬يمكن لأي‮ ‬من الفاعلين الآخرين المتزايدة أدوارهم في‮ ‬الساحة الدولية النهوض بها‮.‬
 
أدى انهيار عدد من دول الشرق الأوسط التقليدي،‮ ‬مثلما حدث في‮ ‬العراق،‮ ‬وسوريا،‮ ‬وليبيا،‮ ‬واليمن،‮ ‬وعدد آخر من الدول المتاخمة للمنطقة،‮ ‬مثلما هو الحال في‮ ‬أفغانستان ومالي،‮ ‬إلى مخاطر أمنية جمة،‮ ‬أبرزها خلق مناطق فراغ‮ ‬أمني‮ ‬منحت فرصا‮ ‬غير مسبوقة لانتشار التنظيمات الإرهابية،‮ ‬وعصابات الجريمة المنظمة،‮ ‬وتعزيز أنشطتها،‮ ‬وقدرتها على التجنيد،‮ ‬والحشد،‮ ‬والتخطيط،‮ ‬واستيعاب أي‮ ‬ضربات تستهدفها،‮ ‬فضلا عن إثارة أزمات اجتماعية وإنسانية حادة أطلقت موجات متتالية وكثيفة من المهاجرين واللاجئين‮. ‬ولم‮ ‬يتوقف أثر هذه المخاطر وتداعياتها على حدود الإقليم،‮ ‬بل باتت تلك الآثار والتداعيات أزمات ذات أبعاد ما وراء إقليمية،‮ ‬تحمل المخاطر في‮ ‬بعض الأحيان إلى أربعة أقطار المعمورة بأسرها‮. ‬المفارقة البارزة،‮ ‬في‮ ‬هذا الإطار،‮ ‬أن هذا الانهيار،‮ ‬وتلك الأزمات أتيا عقب محاولات تدخل عديدة،‮ ‬ومتنوعة الأدوات والأبعاد،‮ ‬قام بها أعضاء الجماعة الأورو-أطلسية لمواجهة ما سموه،‮ ‬وروجوا له،‮ ‬بعدّه فشلا للدولة في‮ ‬منطقة الشرق الأوسط‮.‬
 
بدأت محاولات التدخل تلك بشكل جلي‮ ‬وفج في‮ ‬وقت مبكر،‮ ‬عقب هجمات الحادي‮ ‬عشر من سبتمبر2001،‮ ‬وتحديدا مع‮ ‬غزو الولايات المتحدة الأمريكية لكل من أفغانستان والعراق بدعوي محاربة الإرهاب،‮ ‬من خلال القضاء على الدولة الفاشلة،‮ ‬بحسب التصنيف والرؤية الأمريكيين،‮ ‬وإعادة بنائها‮. ‬لكن على الرغم من ذلك،‮ ‬فإنه لا‮ ‬يمكن إغفال أن المحاولات الأمريكية لإحداث تغيير في‮ ‬بنية الدولة في‮ ‬الشرق الأوسط بدأت في‮ ‬وقت مبكر مع توقيع الرئيس الأمريكي‮ ‬الأسبق بيل كلينتون قانون تحرير العراق‮ ‬(Iraq Liberation Act)‮ ‬في‮ ‬31‮ ‬أكتوبر‮ ‬1998،الذي‮ ‬نص صراحة على العمل من أجل إحداث تغيير سياسي‮ ‬في‮ ‬العراق،‮ ‬وهو القانون الذي‮ ‬يتجاوز في‮ ‬غاياته حدود سياسة الاحتواء المزدوج التي‮ ‬اتبعتها إدارة بيل كلينتون الثانية إزاء كل من العراق وإيران‮. ‬واتسع نطاق أهداف التغيير السياسي،‮ ‬الذي‮ ‬تستهدفه الولايات المتحدة في‮ ‬الشرق الأوسط،‮ ‬مع إطلاق كولن باول،‮ ‬وزير الخارجية في‮ ‬الإدارة الأولي للرئيس الأمريكي‮ ‬جورج بوش الابن مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط،‮ ‬وذلك خلال كلمة ألقاها في‮ ‬مؤسسة هريتاج‮ ‬Heritage Foundation،‮ ‬أحد أهم مراكز التفكير المحافظة في‮ ‬الولايات المتحدة،‮ ‬ومن أوسعها نفوذا في‮ ‬صنع السياسة العامة الأمريكية،‮ ‬خاصة في‮ ‬ظل الإدارات الجمهورية‮. ‬استهدفت تلك المبادرة دعم ما سمته إصلاحات سياسية،‮ ‬واقتصادية،‮ ‬واجتماعية في‮ ‬دول الشرق الأوسط،‮ ‬وشمال إفريقيا،‮ ‬من خلال دعم الأفراد والجماعات،‮ ‬بعيدا عن الإطار الرسمي‮ ‬للدولة‮.‬
 
تكشف تلك الوقائع،‮ ‬وغيرها الكثير،‮ ‬عن أن إحداث تغيير جوهري‮ ‬في‮ ‬بنية الدولة في‮ ‬الشرق الأوسط،‮ ‬خاصة الدول العربية،‮ ‬كان هدفا رئيسيا للجماعة الأورو-أطلسية،‮ ‬منذ نهاية تسعينيات القرن العشرين،‮ ‬وإن بدرجات متفاوتة،‮ ‬وأدوات متنوعة ومتباينة‮. ‬وكانت الحجة الرئيسية المعلنة وراء كل تلك المبادرات،‮ ‬والمشاريع الهادفة لتغيير بنية الدولة العربية،‮ ‬تحديدا في‮ ‬الشرق الأوسط،‮ ‬هي معالجة ما عدّته الولايات المتحدة وحلفاؤها عوامل فشل في‮ ‬بنية تلك الدولة،‮ ‬خاصة فيما‮ ‬يتعلق بقدرتها على الاستيعاب السياسي،‮ ‬والاجتماعي،‮ ‬والاقتصادي‮ ‬لجميع مكوناتها‮. ‬لكن المؤكد أن هذه الخبرة الممتدة نسبيا لإحداث تغيير في‮ ‬هيكل الدولة في‮ ‬الشرق الأوسط،‮ ‬تحت مسميات مختلفة،‮ ‬أثبتت فشلها في‮ ‬معالجة جوانب فشل هذه الدولة،‮ ‬ولم تكن في‮ ‬أي‮ ‬من تجاربها،‮ ‬وبكل أنماطها،‮ ‬سواء الناعمة،‮ ‬كما تبدت في‮ ‬مبادرات الإصلاح،‮ ‬أو الخشنة،‮ ‬كما تجسدت في‮ ‬خبرات التدخل العسكري،‮ ‬خبرة فعالة أو كفئا‮. ‬بل إنه‮ ‬يمكن،‮ ‬بدرجة كبيرة من التحقق،‮ ‬ملاحظة أن خبرة التدخل تلك أسهمت في‮ ‬مزيد من إضعاف الدولة في‮ ‬الشرق الأوسط،‮ ‬وإدامة فشلها،‮ ‬وإعادة إنتاجه بأشكال مختلفة أكثر حدة،‮ ‬وأخطر أثرا،‮ ‬باتت تهدد ليس فقط بانهيار الدولة في‮ ‬الشرق الأسط،‮ ‬بل كذلك مجمل الاستقرار والأمن،‮ ‬إقليميا وعالميا على السواء‮.‬
 
وبالنظر إلى أن أغلب تلك المبادرات والمشاريع،‮ ‬التي‮ ‬تذرعت بمحاولة إصلاح الدولة في‮ ‬الشرق الأوسط،‮ ‬وتجنب فشلها،‮ ‬نبع،‮ ‬مثلما كان الحال تاريخيا في‮ ‬تجارب إعادة البناء السابقة،‮ ‬من داخل الجماعة الأورو-أطلسية،‮ ‬والمؤسسات الدولية وثيقة الصلة بها،‮ ‬ولم‮ ‬ينبع بالأساس من داخل الدولة في‮ ‬الشرق الأوسط،‮ ‬فإنه‮ ‬يتعين البحث،‮ ‬من جهة،‮ ‬في‮ ‬أسباب فشل تلك المحاولات،‮ ‬خاصة إذا ما قورنت بخبرات إعادة بناء الدولة التي‮ ‬انتهجتها هذه الجماعة في‮ ‬مراحل سابقة،‮ ‬سواء عقب نهاية الحرب العالمية الثانية في‮ ‬كل من ألمانيا واليابان،‮ ‬أو عقب نهاية الحرب الباردة في‮ ‬شرق أوروبا،‮ ‬ومن جهة أخري في‮ ‬تحديد عوامل الفشل المستعصي‮ ‬على الإصلاح/إعادة البناء في‮ ‬الكثير من دول الشرق الأوسط لبيان ما تستلزمه إقالة تلك المنطقة من عثراتها متعددة الأبعاد التي‮ ‬باتت تهدد ليس فقط صلاحيتها،‮ ‬كفاعل دولي‮ ‬إيجابي،‮ ‬ولكن حتى الوجود المادي‮ ‬والقانوني‮ ‬للكثير من دولها،‮ ‬وهو الخطر المرجح امتداده إلى دول أخري عديدة في‮ ‬المنطقة،‮ ‬ما لم تعالج جذوره المنتجة لحالة الفشل المستعصية تلك‮.‬
 
سياقات التدخل وخطاب المخاتلة‮:‬
 
يكشف الاستعراض السريع السابق لمحاولات القوى‮ "‬الغربية‮"‬،‮ ‬بقيادة الولايات المتحدة،‮ ‬لإحداث تغييرات جوهرية في‮ ‬بنية الدولة في‮ ‬الشرق الأوسط،‮ ‬تحت مسمي إعادة البناء،‮ ‬أنها كانت سابقة لما سمي‮ "‬الحرب على الإرهاب‮". ‬كما تكشف وقائع التدخل وسيرورته،‮ ‬منذ بداياته المبكرة،‮ ‬عن أنه لم‮ ‬يكن‮ ‬يستهدف بالفعل،‮ ‬خاصة في‮ ‬مراحله الأولي،‮ ‬بؤر الإرهاب الحقيقية،‮ ‬الذي‮ ‬كان‮ ‬يتمدد وتتنامى قوته في‮ ‬أفغانستان طوال عقد التسعينيات من القرن العشرين،‮ ‬في‮ ‬ظل حالة جلية من فشل الدولة،‮ ‬بقدر ما كان‮ ‬يستهدف دولا محورية في‮ ‬إعادة تعريف المصالح الأمريكية في‮ ‬حقبة ما بعد الحرب الباردة،‮ ‬مثلما كان الحال بالنسبة للعراق،‮ ‬الذي‮ ‬رغم وجود نظام استبدادي‮ ‬على قمة السلطة فيه،‮ ‬فإنه لم‮ ‬يكن من الممكن وصفه بالدولة الفاشلة إلا في‮ ‬حدود تأثيرات العقوبات الدولية،‮ ‬والحصار الضار الذي‮ ‬تعرض له منذ‮ ‬غزوه الكويت في‮ ‬أغسطس‮ ‬1990‮.‬
 
وبالمثل،‮ ‬فإن برامج دعم أفراد وتنظيمات خارج إطار البناء الرسمي‮ ‬لمؤسسات الدولة،‮ ‬التي‮ ‬تم تطبيقها عقب هجمات‮ ‬11 سبتمبر‮ ‬2011،‮ ‬في‮ ‬إطار مبادرة باول للشراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط،‮ ‬لم تستهدف بدورها الدول الأكثر فشلا،‮ ‬بل والمنهارة بالفعل عبر المنطقة،‮ ‬مثل الصومال،‮ ‬أو دول إفريقيا جنوب الصحراء المتاخمة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا،‮ ‬بقدر ما استهدفت دولا محورية في‮ ‬الشرق الأوسط،‮ ‬مثل مصر،‮ ‬وتونس،‮ ‬والمغرب،‮ ‬وهي‮ ‬دول،‮ ‬رغم الطبيعة التسلطية لأنظمتها الحاكمة في‮ ‬هذا التاريخ،‮ ‬لم‮ ‬يكن من الممكن تصنيفها ضمن الدول الفاشلة،‮ ‬أو العاجزة عن بسط هيمنتها على كامل إقليمها،‮ ‬وممارسة سيادتها عليه،‮ ‬أو المعرضة لمخاطر جسيمة،‮ ‬جراء القصور الوظيفي‮ ‬لبعض مؤسساتها‮. ‬وبالتالي،‮ ‬يبدو أن استخدام فشل الدولة لتسويغ‮ ‬محاولات التدخل الناعمة،‮ ‬أو حتى الخشنة،‮ ‬التي‮ ‬قامت بها الجماعة الأورو-أطلسية لإحداث تغييرات جوهرية في‮ ‬هيكل السلطة في‮ ‬عدد من دول الشرق الأوسط،‮ ‬لم‮ ‬يكن في‮ ‬أفضل الأحوال إلا خطاب مخاتلة‮ ‬يُستخدم شعارات الإصلاح السياسي،‮ ‬والاقتصادي،‮ ‬والاجتماعي‮ ‬للتمويه على أهداف أخري تندرج ضمن سياسة متواصلة لإعادة الهندسة الإقليمية،‮ ‬قد تختلف في‮ ‬أدواتها،‮ ‬وفي‮ ‬ومداها،‮ ‬لكن لا تختلف في‮ ‬جوهرها،‮ ‬وهو إعادة تعريف الشرق الأوسط،‮ ‬ورسم خرائط النفوذ فيه بما‮ ‬يتوافق مع مصالح القيادة الأمريكية المنفردة للنظام الدولي‮.‬
 
وفي‮ ‬هذا الإطار،‮ ‬يمكن تحديد أبرز خصائص سياق خطاب الإصلاح/إعادة البناء في‮ ‬الشرق الأوسط،‮ ‬الذي‮ ‬تم إطلاقه من قبل الجماعة الأورو-أطلسية تحت القيادة الأمريكية،‮ ‬فيما‮ ‬يأتي‮:‬
 
1‮- ‬ارتبط نقل مفاهيم الدولة الفاشلة وإعادة البناء إلى فضاء التفاعلات الإقليمية في‮ ‬الشرق الأوسط بمرحلة إعادة هندسة الولايات المتحدة لحضورها في‮ ‬المنطقة‮. ‬ومع تباين الأدوات المستخدمة في‮ ‬هذا السياق بين الإدارات الديمقراطية،‮ ‬التي‮ ‬غلب عليها استخدام أدوات السياسة الناعمة،‮ (‬غير العنيفة وغير العسكرية‮)‬،‮ ‬أو الجمهورية التي‮ ‬غلب على خبرة إدارتي‮ ‬جورج بوش الابن توظيفها الأدوات العسكرية،‮ ‬فإن أهداف إعادة الهندسة الإقليمية الأمريكية الأساسية تمثلت في‮:‬
 
أ‮- ‬خفض عبء دعم الحلفاء التقليديين من الحكام العرب وحمايتهم،‮ ‬بعدما تراجعت أهميتهم كثيرا في‮ ‬النسق الإدراكي‮ ‬الأمريكي‮ ‬في‮ ‬ظل‮ "‬أوهام‮" ‬انتهاء التنافس القطبي‮ ‬على مقدرات المنطقة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي‮. ‬وتعزز هذا الإدراك مع هجمات‮ ‬11سبتمبر‮ ‬2011‮ ‬التي‮ ‬تم تفسيرها،‮ ‬بشكل قاصر،‮ ‬بعدّها مجرد نتيجة مباشرة لدعم الولايات المتحدة لهؤلاء الحكام،‮ ‬وليس جراء مجمل سياساتها وحضورها في‮ "‬الفضاء الإسلامي‮" ‬الذي‮ ‬تتصوره وتستهدف تحقيقه تيارات الإسلام السياسي،‮ ‬بأجنحتها وتنظيماتها المختلفة‮.‬
 
ب‮- ‬إعادة تعريف المنطقة لتسع باكستان وأفغانستان في‮ ‬إطار ما عُرف بـ‮ "‬الشرق الأوسط الكبير‮" ‬الذي‮ ‬يستهدف بالأساس،‮ ‬من جهة،‮ ‬محاولة عزل الدولتين ذواتي الأغلبية المسلمة،‮ ‬ودمجهما في‮ ‬الفضاء الشرق الأوسطي‮ ‬وصراعاته،‮ ‬وليس فضاء جنوب آسيا الذي‮ ‬أرادته السياسة الأمريكية خلوا من تأثيرات منظور‮ "‬الصراع مع الإسلام‮"‬،‮ ‬من جهة أخري‮. ‬ويقع في‮ ‬القلب من محاولة خلق هذالارتباط الهيكلي تعزيز ارتباط دول الخليج العربية بكلتا الدولتين،‮ ‬ومحاولة موازنة القوة العسكرية الإيرانية بنظيرتها الباكستانية،‮ ‬وبالفوضى الضاربة في‮ ‬أفغانستان‮. ‬ويؤكد هذا التوجه سمت ترسيخ التباين الحضاري‮ ‬المؤسس دينيا،‮ ‬والذي‮ ‬أطر فكريا لمبادرات إعادة البناء في‮ ‬الشرق الأوسط في‮ ‬النسق المعرفي‮ ‬الغربي‮.‬
 
جـ‮ - ‬خلق فضاء صراعات جديد‮ ‬يهمش من محورية القضية الفلسطينية،‮ ‬بعدّها القضية المركزية التي‮ ‬تأسس حولها مفهوم السياسات الشرق أوسطية طوال ما‮ ‬يزيد على نصف قرن حتى مطلع الألفية الجديدة‮.‬
 
2‮- ‬تأطير مبادرات الإصلاح،‮ ‬وإعادة البناء ضمن فكرة‮ "‬صراع الحضارات‮" ‬التي‮ ‬تجسدت فيما وراء الإنتاج المعرفي‮ ‬للنخبة السياسية الأمريكية،‮ ‬مثل صامويل هنتنجتون وبرنارد لويس،‮ ‬على مستوى رسم خرائط المنطقة،‮ ‬مثلما سلفت الإشارة،‮ ‬وكما تجلي في‮ ‬إعادة تعريف وظيفة حلف شمال الأطلسي،‮ ‬خلال قمة واشنطن في‮ ‬عام‮ ‬1999،‮ ‬من الدفاع عن حدود دول الحلف للدفاع عن مصالحه،‮ ‬وهو التغيير الذي‮ ‬تجلي في‮ ‬محاولة تعزيز حضور الحلف في‮ ‬هلال الأزمات الممتد من وسط آسيا وحتى شمال إفريقيا‮.‬
 
ويختلف هذا التأطير الحضاري‮ ‬عن التدخل الأورو-أطلسي‮ ‬في‮ ‬شرق أوروبا،‮ ‬والذي‮ ‬دفع باتجاه تعزيز الصراعات داخلها،‮ ‬خاصة في‮ ‬يوغوسلافيا السابقة،‮ ‬في‮ ‬إطار من الصراع على الجغرافيا مع بقايا الأنظمة والنخب،‮ ‬ذات الانتماءات الشيوعية،‮ ‬أو الارتباطات المصلحية،‮ ‬أو العرقية مع الإمبراطورية الروسية المريضة في‮ ‬ذلك الوقت‮. ‬وإذا كان قد تم استخدام الدين في‮ ‬بعض تلك الصراعات،‮ ‬فقد كان ذلك في‮ ‬إطار تكتيكي‮ ‬مرحلي،‮ ‬لم‮ ‬يهدف إلى خلق فاصل،‮ ‬أو عازل ثقافي‮ ‬وقيمي‮ ‬مع تلك المنطقة التي‮ ‬واكب محاولة إعادة بناء دولها دمجها في‮ ‬الفضاء السياسي‮ ‬الأوروبي،‮ ‬والفضاء الأمني‮ ‬الأورو-أطلسي‮. ‬
 
كان الأمر على خلاف ذلك في‮ ‬التعاطي‮ ‬مع الشرق الأوسط،‮ ‬الذي‮ ‬كان عزله حضاريا أحد الأهداف البارزة للسياسة الأمريكية منذ نهاية تسعينيات القرن العشرين‮. ‬وهو الهدف الذي‮ ‬تعزز مع ازدياد قدرة الولايات على التحرر من اعتمادها على نفط الشرق الأوسط‮. ‬وبقدر ما أتاح هذا التأطير الحضاري‮ ‬درجة مرتفعة نسبيا من القدرة على حشد الحلفاء،‮ ‬خلف سياسات إعادة الهندسة الإقليمية الأمريكية في‮ ‬الشرق الأوسط،‮ ‬فإنه قلص كثيرا من فرص نجاح هذه السياسات في‮ ‬واقع بات معاديا بشكل تام للحضور الغربي،‮ ‬على أسس ثقافية وقيمية عميقة بعدما راجت هذه المقولات عبر المنطقة،‮ ‬وفي‮ ‬وجدان سكانها،‮ ‬ووظفتها تيارات الإسلام السياسي‮ ‬المحافظة بشكل مكثف لتعزيز حضورها على حساب تيارات الليبراليين والعلمانيين،‮ ‬وأنصار العقلانية‮.‬
 
سراب الدولة في‮ ‬الشرق الأوسط وإعادة إنتاج فشلها‮:‬
 

حملت هاتان الخصيصتان بذور فشل محاولات إعادة الهندسة الإقليمية الأمريكية‮. ‬فمن جهة،‮ ‬خلق التوجه الأمريكي‮ ‬لإعادة الهندسة الإقليمية،‮ ‬والتحرر من عبء الحلفاء التقليديين حالة من عدم الثقة،‮ ‬بل والعداء،‮ ‬لدي كثير من الحكام العرب النافذين في‮ ‬المنطقة،‮ ‬قبل انتفاضات ما تمت تسميته،‮ ‬في‮ ‬إطار الترويج الإعلامي‮ ‬للتغيير السياسي‮ ‬في‮ ‬المنطقة،‮ "‬الربيع العربي‮". ‬وتجلي هذا العداء في‮ ‬عمل دول عربية رئيسية على إفشال المشروع الأمريكي‮ ‬لإنتاج نموذج للتغيير السياسي‮ ‬في‮ ‬المنطقة انطلاقا من العراق‮. ‬ومن جهة ثانية،‮ ‬أتاح إطار الصراع الحضاري‮ ‬لتيارات الإسلام السياسي‮ ‬استغلال محاولات إعادة الهندسة الأمريكية في‮ ‬المنطقة لتعزيز حضورها،‮ ‬بعدّها المدافعة عن قيم المنطقة وثقافتها في‮ ‬مواجهة هذا الحضور الأمريكي،‮ ‬وفي‮ ‬مواجهة الحكام من حلفاء الولايات المتحدة التقليديين على السواء‮.‬
 
وتصورت إدارة جورج بوش الابن أن العراق،‮ ‬الذي‮ ‬أنهكته العقوبات،‮ ‬قد‮ ‬يمثل قصب السبق بالنسبة لطموحاتها من أجل إعادة الهندسة الإقليمية‮. ‬وافترضت السياسة الأمريكية أن إحداثها تغييرا سياسيا مواتيا وخاضعا في‮ ‬العراق،‮ ‬الذي‮ ‬كان مستقرا إثنيا تحت حكم صدام حسين،‮ ‬ولم‮ ‬يشهد بروز تيارات سلفية جهادية محافظة،‮ ‬رغم هزيمته الساحقة في‮ ‬حرب تحرير الكويت،‮ ‬وسنوات الحصار الطويلة،‮ ‬سيمثل حجر الدومينو الذي‮ ‬يمكنه إطلاق موجة تغيير سياسي‮ ‬مدار أمريكيا عبر المنطقة‮. ‬وواجه التدخل الأمريكي‮ ‬كلا جناحي‮ ‬العداء اللذين استحثتهما إعادة الهندسة المتصورة أمريكيا،‮ ‬وهما الأنظمة الحاكمة القلقة على وجودها،‮ ‬والإسلام السياسي،‮ ‬الذي‮ ‬وجد أكثر تياراته محافظة فرصة‮ ‬غير مسبوقة لحشد الأنصار وتعبئتهم،‮ ‬ليس في‮ ‬العراق فحسب،‮ ‬بل عبر المنطقة بأسرها،‮ ‬من خلال استحضار شعارات الصراع المقدس‮.‬
 
مشهد مماثل حدث قبلا في‮ ‬أفغانستان،‮ ‬وكانت محصلة أولي محاولات إعادة بناء الدولة في‮ ‬الشرق الاوسط بشكل مباشر،‮ ‬من قبل الولايات المتحدة،‮ ‬فشلا كاملا‮. ‬فشلا أطلق حجر دومينو بالفعل في‮ ‬السياسة الإقليمية،‮ ‬لكنه حجر دومينو الفوضى،‮ ‬وليس إعادة بناء ممنهجة للدولة في‮ ‬الشرق الأوسط‮. ‬وسرعان ما انتقلت السياسة الأمريكية بمنطق نفعي‮ ‬تام خلو من أي‮ ‬التزام أخلاقي‮ ‬بما ادعته محاولة لحماية المنطقة من عوامل الهشاشة التي‮ ‬تودي‮ ‬بدولها إلى الفشل،‮ ‬وخلو حتى من أي‮ ‬التزام بالقيم الليبرالية المؤسسة للدولة الأمريكية بالمعني الشتراوسي،‮ ‬نحو محاولة إدارة ما سمته وزيرة الخارجية الأمريكية،‮ ‬إبان إدارة جورج بوش الابن الثانية،‮ "‬الفوضى الخلاقة‮"‬،‮ ‬وليس إدارة البناء،‮ ‬مثلما كان التصور الموهوم مسبقا‮.‬
 
ومن دون الاستغراق في‮ ‬تفاصيل ما حدث منذ ذلك الحين وحتى اليوم،‮ ‬حيث لا‮ ‬يتسع المقام لمثل هذا التفصيل،‮ ‬بات‮ ‬يبدو جليا أن الرهان الأمريكي،‮ ‬في‮ ‬ظل عملية إدارة الفوضى تلك،‮ ‬على بعض تيارات الإسلام السياسي،‮ ‬التي‮ ‬وسمها الخطاب السياسي‮ ‬الأمريكي،‮ ‬وخطابات عدد مهم من حلفائها،‮ ‬لا سيما بريطانيا وألمانيا،‮ ‬بـ‮ "‬المعتدلة‮"‬،‮ ‬لم‮ ‬ينتج إلا مزيدا من تردي‮ ‬الدول المأزومة في‮ ‬المنطقة في‮ ‬هاوية الفشل،‮ ‬وإعادة إنتاجه،‮ ‬وإدامة العوامل المحفزة لفشل دول أخري عبر الإقليم،‮ ‬من دون اكثراث حقيقي‮ ‬من قبل الجماعة الأورو-أطلسية بإعادة بناء الدولة في‮ ‬المنطقة فعليا،‮ ‬بل بمجرد إدارة الصراع على السلطة،‮ ‬واحتواء التهديدات،‮ ‬وإبقائها داخل المنطقة لتحترق بها دولها‮.‬
 
ولعل كلمة السر في‮ ‬فشل محاولات إعادة البناء،‮ ‬التي‮ ‬بادر المعسكر المنتصر في‮ ‬الحرب الباردة،‮ ‬فضلا عن الخصيصتين السالف توضيحهما،‮ ‬إنما تكمن في‮ ‬حقيقة أن ظاهرة الدولة التي‮ ‬تعرفها المنطقة هي‮ ‬في‮ ‬جزء كبير منها تندرج في‮ ‬إطار ما‮ ‬يمكن وصفه بـ‮ "‬سراب الدولة‮"‬،‮ ‬وليس الدولة الحقيقية‮.‬
 
ولتوضيح هذا المفهوم،‮ ‬يتعين أن نستحضر مفاهيم الدولة التي‮ ‬طورت في‮ ‬إطار السيرورة السياسية الغربية‮. ‬ويمكن أن نحدد ثلاثة اقترابات شديدة الأهمية،‮ ‬طورتها الأدبيات السياسية الغربية لتعريف الدولة‮. ‬أول تلك الاقترابات هو اقتراب الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني‮ ‬ماكس فيبر،‮ ‬الذي‮ ‬يعرف الدولة بعدّها الوحدة القادرة على احتكار العنف،‮ ‬وممارسة الضبط على كامل إقليمها‮. ‬ويركز هذا الفهم على الركيزة الأساسية لوجود الدولة‮. ‬بينما‮ ‬يذهب الاقتراب الثاني،‮ ‬الذي‮ ‬يقدمه عالم الاجتماع الفرنسي‮ ‬بيير بورديو،‮ ‬خطوة أبعد،‮ ‬وهو‮ ‬يقرر أن‮ "‬الدولة هي‮ ‬محصلة عملية تركيز مختلف أنماط رأس المال‮: ‬رأس المال الإكراهي‮ (‬الجيش والشرطة‮)‬،‮ ‬ورأس المال الاقتصادي،‮ ‬ورأس المال الثقافي‮ ‬أو المعلوماتي،‮ ‬ورأس المال الرمزي‮. ‬يمنح هذا التركيز الدولة نوعا من رأس المال الفريد،‮ ‬الذي‮ ‬يمنحها سلطة على كل أنماط رأس المال الأخرى وحائزيها‮". ‬وبحسب هذا الاقتراب الاجتماعي،‮ ‬تعد الدولة بحسب،‮ ‬بورديو،‮ ‬تجسيد لمجموع رءوس الأموال التي‮ ‬تجعلها وحدة تتفوق على كل حائزي‮ ‬القوة الآخرين‮.‬
 
يركز كلا الاقترابين السابقين على الطبيعة الإكراهية لوجود الدولة،‮ ‬في‮ ‬حين‮ ‬يذهب الاقتراب الثالث والأخير خطوة أبعد من الاقترابين السابقين،‮ ‬حيث‮ ‬يحاول دمج القبول الطوعي‮ ‬للمجتمع بحقيقة وجود الدولة واستمرارها‮. ‬يعكس هذا الاقتراب تعريف أحد أبرز دارسي‮ ‬الأمن الدولي،‮ ‬باري‮ ‬بوزان،‮ ‬للدولة،‮ ‬حيث‮ ‬يقول‮ "‬توفر السيادة العامل الجوهري‮ ‬الذي‮ ‬يميز الدولة عن‮ ‬غيرها من الوحدات الاجتماعية الأخرى‮. ‬الدولة هي‮ ‬الصمغ‮ ‬الذي‮ ‬يربط حزمة الإقليمي‮-‬السياسي‮-‬الاجتماعي‮ ‬معا‮".‬
 
وإذا كان ممكنا أن نجد الدولة بالمعني الإكراهي‮ ‬الاحتكاري‮ ‬الذي‮ ‬قدمه الاقترابان الأولان في‮ ‬عدد من الدول في‮ ‬الشرق الأوسط،‮ ‬فإن الدولة،‮ ‬بمعناها الأخير الذي‮ ‬يقدمه بوزان،‮ ‬هي‮ ‬ظاهرة نادرة الوجود في‮ ‬الشرق الأوسط‮. ‬وباستثناء إسرائيل التي‮ ‬تمثل دولة عنصرية الطابع،‮ ‬فإن أبرز نماذج دولة بوزان في‮ ‬الشرق الأوسط هي‮ ‬الدولة المصرية التي‮ ‬تكونت لحمتها القومية عبر تاريخ ممتد من التفاعلات بين البشر،‮ ‬والأرض،‮ ‬والسلطة بشكل لا‮ ‬يتيح أي‮ ‬انفصال بينها‮. ‬ولعل هذا الميراث التاريخي‮ ‬هو فقط الذي‮ ‬يمكنه أن‮ ‬يفسر بقاء تلك الدولة عبر كل الأزمات الحادة التي‮ ‬جابهتها،‮ ‬وعبر قدرتها على مواجهة حالات الانهيار‮ ‬غير المسبوقة،‮ ‬التي‮ ‬شهدتها المنطقة في‮ ‬السنوات الست الأخيرة،‮ ‬رغم الوضع الاقتصادي‮ ‬المأزوم للدولة،‮ ‬ومحاولات استنزافها خارجيا وداخليا،‮ ‬وتعرض قدرتها على الإكراه لقدر‮ ‬غير بسيط من التآكل،‮ ‬في‮ ‬ظل أزمتها الاقتصادية الممتدة‮. ‬ويمكن أن نلمح بعض مقومات دولة بوازن تلك،‮ ‬بدرجات متفاوتة،‮ ‬في‮ ‬كل من المغرب،‮ ‬وإيران،‮ ‬وتركيا‮. ‬عدا ذلك فإن،‮ ‬أغلب دول المنطقة لا تمثل،‮ ‬وفقا لهذا المعني سوي حالة‮ "‬سراب الدولة‮"‬،‮ ‬وهي‮ ‬حالة لا تتحقق فيها هذه اللحمة بين المجتمع والسلطة،‮ ‬والإقليم بعيدا عن الطابع الإكراهي،‮ ‬أو الاحتكاري للثروة‮.‬
 
وفضلا عن حداثة نشأة الدولة في‮ ‬الشرق الأوسط،‮ ‬فإن ما‮ ‬يمكن أن‮ ‬يفسر العجز عن الانتقال بها من الدولة المصطنعة إلى دولة قومية حقيقية بالمعني الإدماجي‮ ‬السابق الإشارة إليه،‮ ‬هو هيمنة نسق الإقصاء في‮ ‬بنائها على حساب خلق بوتقة صهر تستوعب على الأقل الجزء الأكبر المتنوع من سكانها‮. ‬وكانت لعنة الموارد وطبيعتها الريعية،‮ ‬فضلا عن التدخلات الخارجية،‮ ‬عاملين أساسيين في‮ ‬تكريس نسق الإقصاء في‮ ‬بناء الدولة في‮ ‬الشرق الأوسط،‮ ‬لكن لا‮ ‬يمكن إنكار أثر الاستسلام النخبوي لكلا العاملين في‮ ‬إدامة هذه الحالة وتكريسها‮.‬
 
في‮ ‬هذا الإطار فقط،‮ ‬يمكن فهم لماذا تديم مبادرات إعادة البناء الأورو-أطلسية حالة فشل الدولة في‮ ‬المنطقة،‮ ‬وتهدد بانتشارها،‮ ‬حال تعرض القدرة الإكراهية أو الاحتكارية-الرعوية للدول التي‮ ‬لا تزال تحتفظ بصورة الاستقرار إلى التآكل؟‮. ‬ويمكن تحديد أبرز عوامل قصور تلك المبادرات عن تجاوز هذه الحال فيما‮ ‬يأتي‮:‬
 
أ‮- ‬تركيزها على فكرة التغيير السلطوي‮ ‬بعدّه الركيزة الأساسية لإعادة البناء،‮ ‬بينما تغيب عن بنية الدولة الفعلية المقومات الإدماجية الرئيسية من اقتصاد حديث لا‮ ‬يرتهن للمنطق الريعي،‮ ‬وعقد اجتماعي‮ ‬توافقي‮ ‬لا‮ ‬يمكن أن تخلقه إلا إرادة واعية حازمة وقوية من قبل قادة الرأيأي‮ ‬والنخب المؤثرة،‮ ‬أو‮ "‬ضريبة دم‮" ‬شديدة التكلفة بدأت المنطقة في‮ ‬سدادها بالفعل‮.‬
 
ب‮- ‬الرهان على تيارات الإسلام السياسي‮ ‬كبديل للأنظمة الحليفة التقليدية،‮ ‬بعدّ‮ ‬تلك التيارات الأجدر على حشد الجماهير‮. ‬لكن هذه الرؤية تتغافل عن حقيقة مهمة دفعت السياسة الأوروبية ثمنا باهظا لتجاوزها،‮ ‬إبان الحروب الدينية،‮ ‬وهي‮ ‬أن تيارات السياسة الدينية لا تعدّ‮ ‬الدولة،‮ ‬بمفهومها القومي‮ ‬القائم على التنوع،‮ ‬إلا عرضا،‮ ‬فاسدا‮ ‬يتعين تجاوزه‮. ‬وبالتالي،‮ ‬فإن إحلال هؤلاء محل النخب الحاكمة التقليدية لا‮ ‬يعني‮ ‬فقط إعادة إنتاج سياسات إقصاء تنتحل سمت القداسة،‮ ‬ولكن‮ ‬يعني‮ ‬أيضا،‮ ‬وبشكل أكثر خطورة،‮ ‬إهدار معني الدولة القومية بتنوعها،‮ ‬مما‮ ‬يهدد بمزيد من حالات الصراع الأهلي،‮ ‬وانهيار الدول،‮ ‬وانتشار التطرف والإرهاب‮.‬
 
جـ‮ - ‬القبول بمنطق تقسيم الدول القائمة،‮ ‬وإنتاج خريطة‮ "‬وستفالية‮" ‬جديدة للدولة في‮ ‬المنطقة على أسس إثنية،‮ ‬لا‮ ‬يمثل إلا هروبا من مواجهة عوامل الأزمة الحقيقية التي‮ ‬أسهمت سياسات المعسكر الأورو-أطلسي‮ ‬في‮ ‬تكريسها،‮ ‬إبان الحرب البادرة،‮ ‬من خلال دعم الأنظمة التسلطية،‮ ‬وحفزت على تفجيرها بعد انتهاء الصراع القطبي‮. ‬كما‮ ‬يهدد مثل هذا القبول ليس فقط بجعل المنطقة موئلا دائما للتطرف والإرهاب،‮ ‬ولكن أيضا بدفعها نحو حالة مستدامة من حروب الوكالة،‮ ‬خاصة مع بروز العديد من قوى المراجعة في‮ ‬النظام الدولي‮ ‬التي‮ ‬ترتبط مصالحها بشكل وثيق ومتنام بالمنطقة،‮ ‬خاصة روسيا والصين‮.‬
 
لا‮ ‬يتعين أن‮ ‬يعيد التاريخ ذاته،‮ ‬مثلما ذهبنا آنفا عند الحديث عن ضريبة الدم التي‮ ‬بدأت المنطقة في‮ ‬دفعها بالفعل‮. ‬ويمكن لحالة مراجعة نخبوية جذرية من قبل السلطات الحاكمة في‮ ‬كثير من دول المنطقة لمقدرات وجودها أن تيسر السبيل أمام فتح المجال لخلق بوتقة صهر تأخرت كثيرا،‮ ‬لكن لم‮ ‬ينعدم فرص استحضارها،‮ ‬سواء في‮ ‬الدول التي‮ ‬لا تزال قادرة على حفظ درجة من درجات الاستقرار،‮ ‬أو حتى الدول التي‮ ‬عانت ويلات الصراعات والحروب الأهلية الطاحنة‮. ‬ويبقي أخيرا تأكيد أن نجاح الدولة المصرية في‮ ‬الخروج من عثرتها التنموية سيمثل نموذجا وطنيا رائدا‮ ‬يمكنه أن‮ ‬يقدم بديلا للمنطقة،‮ ‬ويقودها بعيدا عن مبادرات إدامة فشل الدولة،‮ ‬وهندسة المنطقة على أنقاضها التي‮ ‬تتبناها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأورو-أطلسيون‮.‬
 
-----------------------
(*) تقديم ملحق تحولات استراتيجية، " إعادة البناء.. رهانات خروج الدولة في الشرق الأوسط من مأزق الفشل"، مجلة السياسة الدولية، العدد 208، إبريل 2017.

رابط دائم: