السياقات الغالبة: الصعود الصيني إلى "اللاقطبية"
16-1-2017

مالك عوني
* مدير تحرير مجلة السياسة الدولية، كاتب وباحث مصري في العلاقات الدولية، مؤسسة الأهرام
تجاوز حجم اقتصاد الصين حجم نظيره الأمريكي منذ عام 2014، ليضحي أكبر اقتصادات العالم، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي للناتج المحلي الإجمالي لدول العالم، مقومة وفقا لمنهجية تعادل القوة الشرائية Purchasing Power Parity (PPP) التي تتيح قدرة أفضل وأكثر موضوعية على القياس المقارن للناتج المحلي الإجمالي من منهجية تقويم الناتج المحلي الإجمالي، وفقا لأسعار الصرف الاسمية.
 
أولا- النمط الصيني في مراكمة القوة:
 
بلغ الناتج المحلي الإجمالي للصين في عام 2014، وفقا لهذا التقدير، نحو 17.617 تريليون دولار، تمثل نحو 16.32%  من حجم الناتج العالمي الإجمالي في هذا العام، وفقا لمنهجية التقدير ذاتها، بينما بلغ الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الأمريكية، في هذا العام، وفقا للتقدير ذاته، نحو 17.418 تريليون دولار، تمثل 16.14% من الناتج العالمي الإجمالي. وأكدت أرقام العامين اللاحقين، وفقا للتقدير ذاته، هذا الاتجاه نحو ترسيخ موقع اقتصاد الصين بعدّه أكبر اقتصادات العالم، مقياسا بمنهجية تعادل القوة الشرائية. وبلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي للصين، وفقا لتقديرات البنك الدولي، بحسب هذه المنهجية، نحو 19.814 تريليون دولار في عام 2015، تمثل نحو 17.35% من الناتج العالمي الإجمالي، ليزيد الفارق بينه وبين الاقتصاد الأمريكي، الذي بلغ حجم ناتجه المحلي الإجمالي نحو 18.036 تريليون دولار، بما يمثل نحو 15.79% من الناتج العالمي الإجمالي في هذا العام. أما بالنسبة لعام 2016، فإن تقرير آفاق الاقتصاد العالمي، الصادر عن صندوق النقد الدولي في أكتوبر 2016، قدر صندوق النقد الدولي حجم الناتج المحلي الإجمالي للصين، وفقا للمنهجية ذاتها، بنحو 21.269 تريليون دولار، تمثل نحو 17.9% من حجم الناتج العالمي، مقابل 18.562 تريليون دولار للاقتصاد الأمريكي، تمثل نحو6 15%. من الناتج العالمي.
 
مقابل هذه المنهجية في تقدير أحجام الاقتصادات العالمية، التي تضع الاقتصاد الصيني في صدراتها، يحتفظ الاقتصاد الأمريكي بموقعه كأكبر اقتصاد على مستوى العالم، عند قياس الناتج المحلي الإجمالي، استنادا إلى أسعار الصرف الاسمية، حيث يقدر صندوق النقد الدولي، بحسب هذا القياس، حجم الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة في عام 2016 بنحو 18.562 تريليون دولار، تمثل نحو7 24%. من حجم الاقتصاد العالمي، مقابل نحو 11.392 تريليون دولار للاقتصاد الصيني، تمثل نحو 15.1 من حجم الاقتصاد العالمي. ومع ذلك، فإنه حتى مع استمرار احتفاظ الاقتصاد الأمريكي بصدارته لاقتصادات العالم من حيث الحجم، وفقا لهذه المنهجية، متفوقا على الاقتصاد الصيني، الذي يحل بموجبها في المرتبة الثانية، إلا أن هذا التفوق في مقابل الصين تتقلص فجوته بشكل حثيث ومتواصل مع استمرار نمو الاقتصاد الصيني بمعدلات، رغم تراجعها النسبي خلال السنوات الست الأخيرة، تفوق بدرجة ملحوظة تتجاوز ضعف معدلات نمو الاقتصاد الأمريكي وغيره من الاقتصادات الكبرى حول العالم.
 
ويلاحظ أن الفارق بين حجم الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي ونظيره الصيني، وفقا للقياس، استنادا إلى أسعار الصرف الاسمية، تقلص من نحو 9.073 تريليون دولار في عام 2000، حين بلغ الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي نحو 10.284% تريليون دولار، مقابل 1.211 تريليون دولار لنظيره الصيني، إلى نحو 7.170 تريليون دولار، وفقا لتقديرات صندوق النقد الدولي السابق الإشارة إليها. إلا أن الأعظم دلالة، في هذا الصدد، هو ما تذهب إليه توقعات صندوق النقد الدولي لأحجام الناتج المحلي الإجمالي لدول العالم بحلول عام 2020، من احتمال تراجع هذا الفارق إلى نحو 5.469 تريليون دولار في عام 2020، مع توقع الصندوق أن يبلغ الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في هذا العام نحو 21.927 تريليون دولار، مقابل نحو 16.458 تريليون دولار لنظيره الصيني. 
 
وفي المقابل، فإن التوقعات ذاتها تشير إلى اتساع الفجوة بين حجمي الاقتصادين، استنادا إلى منهجية تعادل القوة الشرائية، لمصلحة الاقتصاد الصيني، الذي يتوقع صندوق النقد الدولي أن يبلغ ناتجه المحلي الإجمالي، وفقا لهذه المنهجية، نحو 29.348 تريليون دولار، مقابل 21.927 تريليون دولار للاقتصاد الأمريكي. تعني هذه الأرقام أنه ما لم يحدث حدث جلل يضرب الاقتصاد الصيني، بل والدولة الصينية ذاتها، ولا يمكن إلا أن تكون تداعياته عالمية النطاق، وبعيدة المدى، فإن حجم الاقتصاد الصيني سيتجاوز حجم نظيره الأمريكي، وفقا لكلتا منهجية القياس، خلال العقد الكامل.
 
لا تقتصر مؤشرات تنامي قوة اقتصاد الصين عالميا على نمو ناتجها المحلي الإجمالي فقط، ولكنها تشمل أيضا، وربما بدرجة أكثر أهمية، ما يتمتع به هذا الاقتصاد من دور عالمي متنام، وآخذ في التوسع، وما يحظي به من درجة استقرار في المقومات الاقتصادية الأخري لهذا النمو.
 
في الشق الأول، يمكن أن نلاحظ أن الصين باتت أكبر بلد مصدر للسلع في العالم، منذ عام 2009، بعدما تجاوزت ألمانيا في هذا الصدد. كما أضحت أكبر بلد من حيث إجمالي حجم التجارة الخارجية، منذ عام 2014، بعدما تجاوزت الولايات المتحدة، في هذا الصدد. ويقلل بعض الاقتصاديين من قيمة تقدم الصين صناعيا وتجاريا الذي يشير إليه هذان التطوران، استنادا إلى أن حجم القيمة المضافة للمكون المحلي الصيني في السلع، التي تصدرها الصين، بلغ في عام 2011 نحو 67 دولارا، مقابل نحو 85 دولارا للولايات المتحدة، و74 دولارا لألمانيا، وفقا لآخر البيانات المتاحة، في إطار مبادرة قياس التجارة الدولية، بحسب القيمة المضافة التي يديرها كل من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، ومنظمة التجارة العالمية (WTO).
 
وبالرغم من أهمية هذا المؤشر بالنسبة لمكانة الصين كقوة اقتصادية، فإنه لا ينفي المكانة الاقتصادية التي باتت تتمتع بها الصين، بعدّها الشريك التجاري الأهم والأعظم نفوذا وتأثيرا لكثير من الدول والمناطق حول العالم، بما في ذلك القوي الاقتصادية الكبرى. وتزداد أهمية هذه الشراكة بالنظر إلى أن الصين باتت، ومنذ عدة سنوات، الشريك التجاري الأول للقارة الإفريقية، التي يمكن وصفها بأنها "القارة الكنز" بالنسبة للاقتصاد العالمي، وكذلك لمنطقة الآسيان التي تراهن السياسة الأمريكية على أنها ستكون القوة الاقتصادية الرئيسية المحركة للاقتصاد العالمي في القرن الحادي والعشرين، كما باتت الشريك التجاري الثاني لأمريكا اللاتينية، التي تعدّها الولايات المتحدة، منذ القرن التاسع عشر حديقتها الخلفية.
 
يعزز من هذه المكانة الدولية، التي باتت تحظي بها الصين، تقدمها سريعا لتصبح واحدة من أهم الدول التي تعد مصدرا للاستثمارات الخارجية المباشرة، بما يتيحه لها ذلك، ليس فقط من تعزيز مكانتها وحضورها ونفوذها في العديد من الدول حول العالم، خاصة الولايات المتحدة، التي تعد المستقبل الأول للاستثمارات الصينية في الخارج، ولكن في تحول الصين، واستدامة نموها الاقتصادي ليصبحا من الأيقونات الرئيسية لاستقرار الاقتصاد العالمي، وتعافيه من الركود الاقتصادي المتواصل منذ الأزمة المالية العالمية عام .2008
 
أما في الشق الثاني، فنلاحظ أن بعض ركائز النمو الاقتصادي الصيني أكثر رسوخا وأمنا من نظيراتها في الاقتصادات الكبرى حول العالم، بما يضمن قدرة أكبر لاستمرار النمو الاقتصادي الصيني، وبالتالي تعاظم دورها الدولي، خلال المدى المتوسط على الأقل. ومن المؤشرات المهمة في هذا الصدد ما يأتي:
 
1- نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي، والذي ارتفع في الصين بنهاية ديسمبر الماضي ليبلغ9 43%.، مقارنة بـ17 104%. في الولايات المتحدة، و229.20% في اليابان، و71.20% في ألمانيا، و90.7% في عموم منطقة اليورو
 
2- حجم احتياطيات النقد الأجنبي، والتي تعد الصين أكبر دول العالم من حيث حجمها، بما يقدر بنحو 3.051 تريليون دولار في نوفمبر 2016، وفقا لبيانات صندوق النقد الدولي، مقابل نحو 1.243 تريليون لليابان التي تحل ثانية، تليها سويسرا بـ 685.559 مليار دولار، والمملكة العربية السعودية بـ 535.900 مليار دولار، بينما حلت الولايات المتحدة في المرتبة التاسعة عشرة على مستوى العالم بـ 116.184 مليار دولار. وتعزز هذه الاحتياطيات القدرة المالية للصين على المستويين الدولي والداخلي على السواء، وهو ما يحفزها لتنفيذ مشروعات تتموية ضخمة، سواء كان داخليا، أو على مستوى إقليمي، وما وراء إقليمي، من خلال مبادرة إحياء طريق الحرير القديم بريا وبحريا.
 
يرافق هذا الصعود الاقتصادي البارز للصين، عالميا، سعي صيني حثيث لمراكمة مقومات القوة في فضاءين آخرين أساسيين للقوة الدولية، هما الفضاء العسكري، والفضاء المعرفي، مستغلة في ذلك ما تتيحه لها قدراتها الاقتصادية والمالية المتعاظمة.
 
وفي الفضاء العسكري، يتعين، بداية، ملاحظة تعدد معايير قياس القوة العسكرية بين الإنفاق العسكري، وتعداد القوات، وحجم القوة النيرانية، ومدى حداثتها، ومستوى الثقافة العسكرية، وبرامج التحديث والتطوير العسكري، مما يجعل قياس تلك القوة، خاصة إذا كان المقصود بها الكفاءة القتالية في ميدان المعركة، مسألة شديدة التعقيد، خاصة إذا ما تم إدراج الحافز المعنوي ضمن هذه المعايير، وأنماط القتال المتغيرة، مع بروز أنماط جديدة من الصراعات، مثل اتساع نطاق حروب المدن، والحروب غير المتماثلة. وقد برز هذا التعقيد بالفعل في المعارك التي شهدتها أفغانستان، والعراق، وسوريا، منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، والتي أثبتت بدرجة كبيرة أن قياس القوة العسكرية بالمعايير التقليدية يعد أمرا بالغ الصعوبة، فضلا عن أنه شديد المراوغة. وهنا، ربما يكون من الأجدى الحديث عن القدرة العسكرية التي تختلف وتتباين بحسب نمط الصراع الذي يتوقع أن تنخرط فيه الدولة، وبالتالي يتوقع أن تتباين قدرة الدولة من نمط صراعي إلى نمط صراعي آخر.
 
ولا يتوافر، حتى اللحظة، قياس دولي يتسم بالشمولية والصدقية معا في مجال القوة -أو القدرة- العسكرية يمكن التنبؤ، استنادا إليه، بكفاءة قدرة الدولة العسكرية في موقف صراعي بعينه، وفاعليتها بدرجة عالية من اليقين. لكن أغلب قياسات القوة العسكرية المتاحة يذهب إلى وضع الصين في إحدى المرتبتين الثانية أو الثالثة عالميا بالتبادل مع روسيا، وخلف الولايات المتحدة الأمريكية. ويبدو أن الصين، بحسب ما يكشف عنه إنفاقها الدفاعي، الذي بلغ في عام 2016 نحو 150 مليار دولار، تمثل أقل من ربع نظيره الأمريكي، الذي بلغ نحو 573 مليار دولار، لا تسعي لإحداث انقلاب في هذا المجال، بقدر ما تسعي إلى بناء قدرة ردع جوية وصاروخية، وبناء قوة بحرية خاصة في مجال بناء حاملات الطائرات، تتيح لها الدفاع عن أمنها ومصالحها المباشرة، والانتقال من حصر سياستها الدفاعية في "عقيدة الدفاع في البحار القريبة"، إلى دمج هذه الأخيرة مع "قدرة الحماية في البحار البعيدة". كما أن الصين لا يبدو أنها تسعي للعب دور أمني عالمي، أو حتى إقليمي، النطاق بما يتجاوز مصالحها المباشرة.
 
أما في المجال المعرفي، الذي يمثل الرهان الحقيقي لضمان استدامة نموها الاقتصادي، وتصاعد مكانتها الدولية، وتحقيق درجة أعلى من الاستقلالية في مقومات قوتها، باتت الصين ثاني أكبر مستثمر على مستوى العالم في مجال البحث والتطوير، مع تقدير بإنفاقها نحو 396.3 مليار دولار في عام 2016، تمثل نحو 4 20%. من إجمالي الإنفاق العالمي على البحث والتطوير. في المقابل، فإن التقديرات تشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية، التي تعد أكبر مستثمر في هذا المجال، أنفقت نحو 514 مليار دولار، تمثل نحو 28.4% من الإنفاق العالمي.
 

ورغم هذا الإنفاق القوي من قبل الصين في مجال البحث والتطوير، فإنه يتضمن جوانب هشاشة خطيرة. فمن جهة، تراجع معدل نمو إنفاق الصين على البحث والتطوير إلى 6.3 %بين عامي 2016 و2015، مقابل 8.4% بين عامي 2015 و2014. ومن جهة أخرى، أظهر استطلاع رأي أجرته مجلة "R & D” بين عدد من الباحثين المعنيين بشئون البحث والتطوير في مجالات مختلفة، ونشرته ضمن ملحق خاص أصدرته مع عددها لشتاء عام 2016 حول آفاق البحث والتطوير حول العالم لعام 2016، أن 68% يعدّون نوعية البحث والتطوير في الولايات المتحدة أفضل منها في الصين، مقابل 8 فقط يرون العكس. فيما عدّ 51 من الباحثين المستطلعة آراؤهم أن إنتاجية البحث والتطوير في الولايات المتحدة تفوق نظيرتها في الصين، مقابل 24 يرون العكس.
 
وتلاحظ بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD أن 69% من إنتاج البحث والتطوير في الصين جاء من قبل باحثين يتبعون الحكومة، و21% من قبل باحثين ينتمون للقطاع الصناعي، و10% من قبل باحثين أكاديميين. بينما يعدّ الوضع معاكسا تماما في الصين، حيث لا تتجاوز حصة الحكومة في إنتاج البحث والتطوير 11%، مقابل  71% للقطاع الصناعي، و18% للقطاع الأكاديمي. ويطرح ذلك تساؤلات جوهرية حول مدى رسوخ التوجه نحو البحث والتطوير في البناء المجتمعي الصيني، ومدى قدرته على الصمود، حال تغير أولويات الحكومة.
 
وفي الإجمال، يمكن القول إنه برغم الصعود الاقتصادي القوي للصين، فإن جزءا مهما من هذا الصعود لا يزال مرتبطا بالاعتماد على الخارج، خاصة عن تقدير هذا الصعود، وفقا لمعيار القيمة المحلية المضافة، فضلا عن أن هذا الصعود يفرض على الصين أعباء وتحديات مهمة لتأمين احتياجاتها من الموارد الخام الخارجية، خاصة النفط الذي تستورد الصين نحو 60% من احتياجاتها منه من الخارج، وهو رقم تضاعف منذ عام 2000، مقابل تراجعه بدرجة كبيرة في الاقتصاد الأمريكي. عدا ذلك، فإنه لا يتوقع أن تتمكن الصين من إحداث انقلاب واقعي في التوزيع العالمي لمقومات القوة العسكرية أو المعرفية، أو حتى تستهدفه في الأمدين القريب أو المتوسط.
 
ثانيا- معضلات تحول الصين إلى قطب دولي:
 
أثار هذا الصعود الصيني السريع في العديد من هياكل القوة الدولية توقعات عديدة بتحول الصين إلى قطب دولي خلال المدى القريب، وربما إلى قائد دولي في الأمد البعيد، وبما لا يتجاوز نهاية القرن الحالي. بل ذهب البعض إلى افتراض أنه في ظل صعود القوة الصينية، ونزعات المراجعة الدولية والإقليمية لدي العديد من القوي الرئيسية، وإخفاق القيادة الأمريكية للنظام العالمي، أو -على الأقل- هشاشتها، فإن العالم بات يشهد بالفعل إرهاصات حقبة تعددية قطبية، لا تقتصر فقط على المجال الاقتصادي، بل تمتد كذلك إلى الفضاءين السياسي/العسكري، والمعرفي.
 
وسنحاول فيما يأتي استكشاف مدى احتمالية تحول الصين إلى قطب دولي في الأمدين القريب والمتوسط، في ضوء ما سبق بيانه من نمط صيني في مراكمة القوة. إلا أنه يلزم بداية طرح بعض الملاحظات المبدئية الأساسية حول مفهوم القطبية في اللحظة العالمية الراهنة. يعني "القطب" الدولي، بحسب ما تجسد في التاريخ الاستراتيجي للعالم، أن تضحي "دولة" ما مركز الثقل، والجاذبية، والهيمنة، الرئيسي والمرجعي بالنسبة لتكتل معين من الدول في إطار نظام دولي معين، سواء أكان هذا النظام عالمي النطاق، أم مجرد نظام إقليمي. ويفترض هذا النمط التاريخي لمفهوم القطبية، إضافة إلى توافر الرغبة لدي الدولة/القطب في حيازة هذه المكانة والإرادة للعب الأدوار التي تستلزمها، وتحمل الأعباء ذات الطابع الشمولي واللاانتقائي التي تفرضها، أن تتمتع مقومات القوة التي تمتلكها هذه الدولة/القطب بسمتين أساسيتين:
 
1- درجة مرتفعة من الاستقلالية في مواجهة القوي الدولية الأخرى، بما يحد من قدرة هذه الأخيرة على التأثير في المجال القطبي للدولة/القطب، وكذلك في مواجهة الدول التي يضمها هذا المجال القطبي، بما يحول دون إمكانية انتهاج هذه الدول سياسات تساومية أو مقوضة في مواجهة سياسات الدولة/القطب
 
2- طابع شمولي في تركز مقومات القوة المختلفة من اقتصادية، وعسكرية، ومعرفية، وسياسية، وأيديولوجية/قيمية لدي الدولة/القطب، بما يحول دون اضطرار الدول المنخرطة في مجال قطبي معين إلى الاعتماد على أطراف دولية أخري بصدد أي من هذه المقومات، مما يحمل بذور هشاشة المجال القطبي، وفرص اختراقه، ونذر تهاويه في أي لحظة منافسة قطبية حادة.
 
وقد بات جليا أن أيا من هاتين السمتين لم يعد متوافرا بذاته، فضلا عن توافرهما مجتمعتين، لدي أي من القوي الدولية الرئيسية في النظام العالمي الراهن بشكل يضمن تماسك أي بناء قطبي حول العالم وتجانسه، وبما يتماثل مع الخبرة التاريخية في تكون الأقطاب الدولية واستمرارها. ويرتبط هذا التراجع في توافر المقومات التاريخية للقطبية بأربعة عوامل رئيسية:
 
1- تزايد درجة الاعتماد المتبادل في بناء مقومات القوة حول العالم مع ترسخ ركائز العولمة.
 
2- انتشار موارد بناء القوة عالميا، مما أتاح بروز العديد من القوي المتوسطة التي لديها تطلعات مراجعة واسعة، وتتمتع بدرجة مرتفعة من الاستقلالية، والقدرة على التأثير والمقاومة.
 
3- تعقد المشكلات والتحديات الدولية، وتداخل أنماطها المختلفة، وانتشارها، والاتساع السريع وغير القابل للضبط في نطاقها، مما بات يحول ليس فقط دون بروز قائد دولي منفرد على نطاق عالمي، مثلما تجلي في الحالة الأمريكية، عقب انتهاء الحرب الباردة، ولكن أيضا بما يحول دون قدرة دولة على فرض هيمنتها المنفردة القطبية في مجال معين.
 
4- وأخيرا انتهاء أحادية الدولة كمقوم لبناء النظام العالمي، وفاعل وحيد منتج لتفاعلاته، مع بروز العديد من الفاعلين الدوليين في مستويات متعددة، سواء ما فوق الدولة، أو العابرين لحدودها، أو حتى داخل بناء الدولة ذاتها. وبقدر ما بات يمتلك هؤلاء الفاعلون من قدرة على التأثير، تراجعت نسبيا استقلالية الدولة، والطبيعة المطلقة لسيادتها، وتراجعت بالتالي قدرتها القطبية.
 
في ظل هذه المعطيات، بات المنطق القطبي ذاته موضع تساؤل وشك واقعيين، مما دفع الدبلوماسي الأمريكي المخضرم لكتابة مقال في مجلة Foreign Affairs الأمريكية في عام 2008، حمل عنوان "عصر اللاقطبية". ويواجه صعود الصين وإمكانية تحولها إلى وضع قطبي هذه التحديات الأربعة السالف بيانها، وبدرجة أكثر حدة بسبب التدخل واسع النطاق من قبل العديد من القوي الدولية الرئيسية في المجال الحيوي الصيني، وتعبئة نطاقات قوة منافسة لأي هيمنة صينية قد تطمح إليها الصين إقليميا، أو حتى تتاح لها في الأمدين القريب والمتوسط، في ضوء التنامي المتسارع لقدراتها المختلفة. ويعزز من ذلك التوجه نحو تقييد فرص تحول الصين إلى قطب دولي، إقليميا أو عالميا، الهشاشة الداخلية التي لا يزال يعانيها المجتمع الصيني، ليس فقط نتيجة بعض النزعات القومية الانفصالية في شمال غرب الصين، ولكن أيضا بسبب عدم توازن توزيع عوائد التنمية طبقيا ومناطقيا، مما يهدد بحدوث اضطراب اجتماعي وسياسي قد تستغله القوي الدولية المتنافسة. ودفعت عوامل الهشاشة تلك القيادة الصينية إلى تعديل بوصلتها التنموية بعض الشيء لتصبح أكثر تركيزا على الداخل، وإصلاح عوامل هشاشته، وعدم توازنه.
 
إلى ذلك، تواجه السياسة الخارجية الصينية معضلتين أساسيتين، يبدو أنها ستكون مضطرة سريعا لحسم خياراتها بشأنهما، خاصة في حال تبنت توجها لمراجعة القطبية على نطاق عالمي، مما قد يغير بدرجة كبيرة شكل السياسة الخارجية الصينية في الأمدين القريب والمتوسط، ويحدد ما يمكن أن تحوذه الصين من مكانة دولية، خلال العقود المتبقية من هذا القرن. ويمكن إجمال هذه المعضلات فيما يأتي:
 
1- معضلة اللاتدخل: وتنبع هذه المعضلة من صعوبة مواصلة الصين سياستها اللاتدخلية، والتي يعتمد عليها جانب مهم من تصاعد مكانتها الاقتصادية العالمية، في حال تبنيها أي نزعة لإحداث تحول قطبي عالمي النطاق. ذلك أن مثل هذا التحول سيحفز العديد من عمليات المراجعة والصراع، عبر العديد من أقاليم العالم، التي تعد ذات أهمية حيوية لمصالح الصين الاقتصادية، بل والاستراتيجية، مثلما تشهد منطقة الشرق الأوسط في اللحظة الراهنة. وإذا كانت مكانة الصين الاقتصادية العالمية تعززت بفضل سياسة اللاتدخل والحيدة تلك، فإن اللاتدخل الصيني في حد ذاته لا يضمن تسوية وحل الصراعات التي تهدد المصالح الصينية.
 
في ظل تلك المعضلة، حاولت الدبلوماسية الصينية تبني نهج الوساطة والمساعي الحميدة لخفض حدة التوتر والصراع في المناطق التي تمس مصالحها، مثلما حدث حين استضافت مباحثات سلام بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان. لكن دبلوماسية الوساطة السلمية تلك لا يمكنها أن تجدي في كل الصراعات، فضلا عن أنها بذاتها قد تثير قلق أطراف دولية أخري تخشي تعاظم دور الصين، مما يدفعها لتعقيد تلك الصراعات لإعاقة الدور الصيني. في هذا السياق، وجدت الصين نفسها مضطرة لتبني مواقف حدية وحاسمة في مواجهة المسألة السورية، بما يمثل تخليا حقيقيا عن سياسة الحياد، وبدرجة ما عن سياسة اللاتدخل.
 
2- معضلة الاستنزاف: يرتبط بالمعضلة السابقة معضلة مدى ما يمكن أن تتخذه الصين من سياسات وإجراءات ذات طبيعة تدخلية. فبينما قد يفترض البعض بشكل قاصر أن تراجع القيادة الأمريكية للنظام الدولي قد يمثل مصلحة لـ "قطب صيني" صاعد، فإن الفراغ الأمني والسياسي، الناتج عن هذا التراجع الأمريكي، سيفرض مزيدا من الأعباء على السياسة الصينية لتأمين مصالحها الحيوية المتعاظمة حول العالم. ويبدو أن التصور الصيني المبدئي في هذا الصدد ينصرف، من جهة، إلى تعزيز قدراتها البحرية لتأمين ممرات التجارة الدولية، إضافة إلى تعزيز حضورها ومطالبها الإقليمية في منطقة بحر الصين الجنوبي، وإلى بناء شراكات أمنية دولية من جهة أخري، مثلما ورد في الورقة البيضاء الأولي في التاريخ، التي أصدرتها الصين بشأن استراتيجيتها العسكرية في شهر مايو من عام .2015 لكن وبغض النظر عن مدى فاعلية تلك الإجراءات وكفاءتها، فإن السياسة الصينية أضحت تدرج معاملات الاستنزاف المحتملة، نتيجة أي تحول قطبي عالمي، ضمن بناء سياستها الخارجية.
 
يمكن إجمالا القول إن بنية النظام العالمي الراهنة، والتحديات التي تواجهها الصين، داخليا وخارجيا، ستدفعان السياسة الخارجية الصينية للانخراط بدرجة أكبر في شبكة تفاعلات لاقطبية، في الأمدين القريب والمتوسط، بأكثر مما ستسعي إلى إعادة بناء قطبي شامل في النظام العالمي، بانتظار وضوح الرؤية بالنسبة لحدود صعود القوي الدولية الأخرى في النظام الدولي، خاصة روسيا، واكتمال تأسيس ركائز الحضور الإقليمي الصيني، ممثلا في مشروع إعادة إحياء طريق الحرير القديم.
 
----------------------------
(*) تقديم، ملحق تحولات استراتيجية، القطب الصيني؟:محددات تطور دور الصين في مرحلة إعادة الهيكلة الدولية، مجلة السياسة الدولية، العدد 207، يناير 2017.

رابط دائم: