ندوة أكاديمية حول الإرهاب الدولي
13-12-2016

د. مصطفى الفقي
* كاتب مصري
وجهت إليّ مكتبة الإسكندرية بالمشاركة مع جامعتي كامبريدج وبرمنغهام دعوة للمشاركة في ندوة دولية حول قضايا العنف ومظاهر الإرهاب في عالمنا المعاصر وتأثير ذلك في الواقعين الدولي والإقليمي، واحتشد لهذه الندوة عدد من أساتذة الجامعات البريطانية والخبراء والمتخصصين من الدول العربية وكانت بينهم شريحة واضحة من الأساتذة الشباب، وقد لفت نظري بينهم شاب سعودي يدرس لنيل الدكتوراه في المملكة المتحدة أثار إعجابنا جميعاً لأنه تعبير عن الأجيال الجديدة من أبناء الجزيرة والخليج الذين حصّلوا قدراً كبيراً من العلم والمعرفة، كما بهرتني مكتبة الإسكندرية بأساتذتها وخبرائها وباحثيها، ولفت نظري الإعداد الجيد لتلك الندوة التي حضرها مدير المكتبة وهو شخصية دولية مرموقة شغل من قبل منصب نائب رئيس البنك الدولي جامعاً بين دقة العالم ورؤية المفكر، ويهمنا أن يشترك معنا القراء في ما تم طرحه من قضايا ومسائل تمت مناقشتها على امتداد يومين داخل حرم جامعة برمنغهام البريطانية وكان لي شرف المساهمة في تلك الندوة المتميزة مع الاهتمام بالنتائج التي تمخضت عنها، وحتى لا تضيع الأفكار في زحام الكلمات فإننا نطرحها من خلال النقاط التالية:
 
أولاً: أجمع المتحدثون من عرب وأوروبيين ومسلمين ومسيحيين ويهود من المشاركين في الندوة على براءة الإسلام الكاملة من جرائم العنف والإرهاب التي يحاول مرتكبوها إلصاقها بهذا الدين الحنيف، وسواء كان المتحدثون بهذه الرؤية صادقين أم منافقين، إلا أن الأمر الذي لا خلاف عليه أنه لم يجاهر بمسؤولية الإسلام عن جرائم العصر الإرهابية إلا بعض المتشددين الذين يتردد أن مستشار الأمن القومي في الإدارة الأميركية الجديدة هو واحد منهم، وحقيقة الأمر أنه جرى انتزاع مفهوم الجهاد من سياقه التاريخي وأصبحنا أمام مغالطة كبرى تخلط بين روح الإسلام السمحاء في جانب وتاريخ المسلمين في جانب آخر وهو الذي لا يخلو من دماءٍ وأشلاءٍ وآلامٍ ومعاناةٍ، ولقد قلت أمام الندوة إن التاريخ الإسلامي مثل التاريخ الأوروبي عرف مراحل من الصعود والهبوط وظهرت فيه موجات من العنف التي حاولت أن تتستر بعباءة الدين، ولكن شريعة الإسلام تدعو إلى الوسطية والاعتدال وترفض الغلو والتطرف وتدين العنف والإرهاب وتدعو أيضاً إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
 
ثانياً: إن الذين يهاجمون الإسلام في جوهره إنما يخرجون عن إطار أديانهم أيضاً على رغم أن الإسلام يعترف بأهل الكتاب ويؤمن بفلسفة التعايش المشترك مع أبناء الديانات الأخرى، ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة على دين واحد ولكن الفطرة الإنسانية جبلت على التعددية والتباين والاختلاف، وارتفعت أصوات غربية أحياناً - وهي قليلة بل نادرة - تحاول تشويه صورة الإسلام والإساءة إلى نبيه الكريم وافتعال أفكار ومواقف بتوليد النصوص لمعانٍ غير صحيحة وإخراجها من سياقها الحقيقي للادعاء بأن العنف والإرهاب من الأدوات الإسلامية بينما الأمر يختلف عن ذلك، فلكل عصر ظروفه ورموزه ولا يمكن تحميله أكثر مما يحتمل، ولقد انزلق البابا السابق وراعي مئات الملايين من الكاثوليك في هذا النوع من الأخطاء الشائعة، كما أن الإشارات التي تصلنا عن مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب تعطي انطباعاً مبدئياً بشيء من ذلك.
 
ثالثاً: لقد ذكرت بوضوح أثناء ندوة برمنغهام المهمة أن الإسلام السياسي هو مصري المولد، ولكنه اكتسب عضلاته القوية وأذرعه الطويلة من الدعم العربي والتعاطف الآسيوي، إذ إن ميلاد جماعة «الإخوان المسلمين» عام 1928 هو التوقيت الموثق لبروز ظاهرة الإسلام السياسي على السطح لأن ما سبق ذلك كان كتابات متناثرة بدرجات متفاوتة شارك فيها محمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وشكيب أرسلان ومحمد رشيد رضا، إلا أن دعوة حسن البنا هي التي حظيت بالتأسيس الكامل للإسلام السياسي المعاصر، ولقد ذكر الأمير نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية السعودي الراحل ذات يوم أن جماعة «الإخوان المسلمين» هي المعلم الأول للجماعات التي انطلقت منها وتفرعت عنها ومارس بعضها العنف واحترف الإرهاب، وفي رأينا أن تلك الجماعة مسؤولة مسؤولية كاملة عن كل الامتدادات التي خرجت منها أو تفرعت عنها بما في ذلك المتشددة والمعتدلة منها، وهي التي مكنت الظاهرة أن تنتشر كالنار في الهشيم بسبب فروعها القطرية ودعوتها البراقة التي لقيت استجابة كبيرة في ظل ضعف العالمين العربي والإسلامي وتراجع المؤسسات الدينية الرسمية، كما أن انهيار المشروع القومي سمح لها بمزيد من التنامي والازدهار، ولا أغالي إذا قلت إن المواجهة بين الجماعة وبين نظام عبدالناصر في مصر أكسبتها ذيوعاً وانتشاراً وتعاطفاً بين المسلمين في أرجاء العالم، كما أنني أظن – وليس كل الظن إثماً - أن استخبارات أجنبية وقفت داعمة لها ومؤيدة لدورها، ولعل العاصمة البريطانية لندن لعبت الدور الأساس في السنوات الأولى لميلاد الجماعة حتى أنه يتردد أن المكتب البريطاني في شركة قناة السويس كان من أوائل المتبرعين لتمويل نشأة جماعة «الإخوان المسلمين»، وقد دار حديث معمق في الندوة حول هذه الطروحات ساهم فيه الحاضرون من مختلف الجنسيات بآرائهم وأفكارهم المؤيدة أو المختلفة مع سياق ما ذكرناه.
 
رابعاً: إننا لا نزعم أن جماعة «الإخوان المسلمين» الأصلية هي التي تقوم بكل ما نراه على الساحة الدولية من ممارسات إرهابية أو مواقف عنيفة، ولكننا ندعي أن لها أبناءً وأحفاداً في تنظيمات إسلامية فرعية تملأ الدنيا وتتخذ من الجماعة إطاراً لشرعيتها ولكنها لا تتوقف أبداً عن التعاطف المشترك بينها مع التفاوت في درجات التشدد أو الوسطية أو الاعتدال وفقاً لكل تنظيم، فـ «القاعدة» و «داعش» في أقصى اليمين بينما هناك تنظيمات أخرى قد لا تتحمس مرحلياً لممارسة العنف واستخدام السلاح، ولقد ذكر «إخواني» مصري بارز على الهواء مباشرة غداة الإطاحة الشعبية بالرئيس الأسبق محمد مرسي وحكومة «الإخوان»، أن العمليات العسكرية في سيناء التي تمارس الإرهاب ضد مصر ستتوقف فور العدول عن عزل الرئيس مرسي وعودة الأمور إلى ما كانت عليه، وهي شهادة من أهل البيت تؤكد ما ذهبنا إليه من أن الجماعة هي الأم الشرعية لكل تنظيمات الإسلام السياسي مع تنوع درجاتها وتفاوت شدتها.
 
خامساً: إن تنظيمي «القاعدة» و «داعش» وهما الأشرس على الساحة الدولية في السنوات الأخيرة، هما تنظيمان ولدا من رحم أحداث كبرى، فـ «القاعدة» ضم بقايا المحاربين ضد الوجود السوفياتي السابق في أفغانستان، كما أن «داعش» ارتبط بالوجود الأميركي في العراق والوضع الذي طرأ على الدولة السورية، ولقد ساهمت دول عربية وإسلامية في دعم هذه التنظيمات ولو في شكل غير مباشر ونحن نقول (إن تحضير العفريت لا يعني إمكانية القدرة على صرفه)، فالمسألة أعمق وأعقد من ذلك بكثير!
سادساً: إننا لا نستطيع تأمل الظواهر السياسية المختلفة والارتباط بينها إلا إذا تابعنا المد اليميني في العالم سياسياً وثقافياً في السنوات الأخيرة بما في ذلك الاتجاه نحو العزلة والقطرية ورفض الكيانات الكبيرة، فلقد قرر الشعب البريطاني الخروج من الاتحاد الأوروبي بينما طفت على السطح مشاعر أميركية كامنة تدعو الى العزلة خصوصاً أن في التاريخ الأميركي منطلقات تدعم هذا التوجه، ولعل فوز الرئيس المنتخب دونالد ترامب هو إشارة أخرى واضحة إلى ظاهرة المد اليميني الذي كان يمكن أن يكون داعماً للتيارات الدينية لولا أن الغرب اكتوى بنارها وأدرك حجم شرورها.
 
سابعاً: يرى كثير من الباحثين والخبراء أن إدارتي جورج دبليو بوش وباراك أوباما ضالعتان في تنامي هذه الظاهرة وتأثيرها في الشباب الجديد، فلقد سعى المحافظون الجدد في عهد بوش الابن إلى التبشير بعالم مختلف يقوم على المواجهة في أفغانستان والعراق، ثم جاء باراك أوباما ليتبنى طرحاً مختلفاً يرى أن الإسلام السياسي ظاهرة متكاملة وأن المعتدل منه قادر على إصلاح المتطرف والتأثير فيه، لذلك كان دعم الغرب والولايات المتحدة خصوصاً لجماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، حيث كانت ترى في الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بديلاً جديداً للسلطان العثماني الذي يمكن أن ينشر مظلته على الشرق الإسلامي ويواجه التحديات المحتملة كافة.
 
إنني أزعم أن ندوة برمنغهام بين مكتبة الإسكندرية وجامعتي كامبريدج وبرمنغهام هي ندوة مثمرة تألق فيها الحضور العربي الإسلامي والمسيحي إلى جانب الحضور الأوروبي الغربي، بل إن أستاذة مرموقة في أوضاع الشرق الأوسط تألقت أثناء الندوة في تفسير ظاهرة الإسلام السياسي بحياد وموضوعية على رغم ديانتها اليهودية لأن مناخ الندوة كان يوحي بضرورة الحياد الأكاديمي والبعد من الشعارات والمغالطات مع توصيف الظاهرة كما هي وليس كما يريدها كل متحدث من وجهة نظره الشخصية.
 
مرحباً بالحضور العربي الإسلامي في المنتديات الأكاديمية والثقافية على الساحة الدولية في ظل الأوضاع الجديدة والظروف الصعبة التي تمر بها كل الأطراف.
 
-------------------------------
* نقلا عن الحياة اللندنية، 13-11-2017.

رابط دائم: