أزمة الهوية والأمن القومي العربي
16-11-2016

حسام ميرو
*
يحيا العالم العربي، اليوم، في ظل جملة من التناقضات المؤثرة في أمنه القومي، والتي ستلعب دوراً حاسماً في رسم مستقبله لعقود قادمة، ومن جملة تلك التناقضات ما تتعرض له الهوية العربية من أزمات، ما يجعل من إعادة النظر والتنظير حول الهوية أمراً لا مفرّ منه، للتعامل مع المخاطر المحيطة بالعرب وأمنهم القومي، خصوصاً في ظل انفتاح العديد من الجغرافيات العربية على حالاتٍ من الصراع الداخلي في وقت واحد، وهي حالة جديدة، لم يعرفها العرب خلال القرن الماضي.
 
وإذا كان سؤال الهوية العربية، أو سؤال العرب عن هويتهم، قد بدأ فعلياً كتناقض مع الخلافة العثمانية في سنواتها الأخيرة، فإن هذا السؤال تحوّل إلى سؤال مركزي في محطات لاحقة عديدة، وربما كانت نكبة فلسطين في عام 1948 هي المحطة الأبرز، والتي مهدت بكونها «الجرح» لظهور مشروع قومي أطلقته «الناصرية»، وهو المشروع الأبرز في تاريخ العرب المعاصر، لكنه مُني بإخفاقات عدة، ولم يتحوّل إلى رافعة حقيقية لإعادة بناء الهوية العربية، وهو ما ستؤكده لاحقاً الأحداث، وترسخه الوقائع، خصوصاً قدوم طبقة العسكر إلى الحكم في العديد من الدول العربية.
 
وإذا كان من الصعب عملياً الفصل بين تكوّن الهوية وبين الواقع السياسي الذي يشكل عاملاً موضوعياً رئيسياً في المسار الذي تتخذه الهوية، فإن مجمل الواقع السياسي الراهن يقول بأن العمق العربي للهوية يعاني اليوم من أزمات بنيوية عديدة، خصوصاً أننا أمام حالة من التشظي، تدفع إلى السطح بهويات تتناقض من حيث الجوهر مع الهوية العربية، بل إنها تجعل من أي صوت ينادي بإعادة الاعتبار لهذا البعد العربي وكأنه صوت نشاز، ومنقطع الصلة بالواقع الجديد الناشئ. 
 
ولمّا كان واقع العرب الراهن على درجة من التعقيد، فإن تفحّص هذا الواقع معرفياً يبدو ضرورة عملية، كي لا ننزلق في التحليل إلى بعد دوغمائي، أو عاطفي، ويتوجب علينا الاعتراف أولاً بأن المأزق الراهن هو نتيجة طبيعية لفشل النخب العربية الحاكمة، والتي اعتبرت أن وجودها يتناقض بالضرورة مع تطوّر وتطوير مقومات هوية عربية، وهي بالتالي قد عرّفت نفسها «بالسلب» مع الهوية العربية، من دون الوعي بالمخاطر الكبرى لهكذا خيار على المستوى الاستراتيجي.
 
كما أنه يجب الاعتراف بأن العرب لم ينتبهوا إلى الحقبة الجديدة لتاريخهم التي بدأت مع الاحتلال الأمريكي للعراق، وما نشأ من مستجدات نتيجة هذا الاحتلال، وخصوصاً دخول إيران كلاعب له طموحات كبيرة، وصعود التطرّف المضاد للهوية العربية. وسيتبين لاحقاً ويتأكد بأن الطموحات الإيرانية تتجاوز الجغرافيا العراقية، وأن المنظمات المتطرفة تتجاوز بأحلامها ومخططاتها ما سمي ب «مقاومة الاحتلال»، وستأخذ بالتمدد على حساب الدول الوطنية، فهي تعرّف نفسها «بالسلب» مع المشاريع الوطنية والقومية العربية، مستفيدة من تداعي المقومات الوطنية في غير بلد عربي (العراق، سوريا، اليمن، ليبيا).
 
وفي حالٍ كهذا، راحت تطفو على السطح هويات دينية ومذهبية في حالة من الدفاع عن النفس، وكتعبيرٍ عن عجزٍ مزمن في صياغة هويات وطنية غير متناقضة مع الهوية العربية، بدأت تلك الهويات تجد تعبيراتها السياسية والإعلامية، بالتزامن مع غياب أية فاعلية تذكر على مستوى الخطاب العربي، ومن دون وجود مساعٍ حقيقية لدرء مخاطر هذا الصعود للهويات القاتلة.
 
وتكمن واحدة من أبرز مشكلات الأمن القومي العربي في التعاطي مع مفهوم «الأمن القومي» من دون أي اعتبار لمفهوم «الهوية»، وترك الساحة الفكرية والإعلامية لصعود الهويات الفرعية، ما يجعل من مفهوم الأمن قاصراً بالضرورة، إذ لا يمكن لأي مفهوم عن الأمن القومي لا يأخذ مسألة الهوية بالحسبان أن ينتج أدوات فاعلة في مواجهة مخاطر خارجية بهذا الحجم الذي يواجه العرب اليوم، ومن شأن ترك الساحة لتلك الهويات أن يطيح بأية محاولات لمنع تدهور منظومة الأمن القومي.
 
إن مسألة الهوية ليست مجرد شعار يرفع، وهو الأمر الذي أثبت فشله منذ خمسينات القرن الماضي، بل هو مسألة خيار استراتيجي، كما أنه مرتبط أشد الارتباط بمسائل لا تقل عنه أهمية، مثل المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان، التي تسمح بخيار الهوية القومية بأن يكون خياراً داعماً للبنى الوطنية، وليس منفصلاً عنها، أو متناقضاً معها، وهذا ما يتطلب جرأة كبيرة من قبل النخب الحاكمة اليوم في العمل على مسارين في الوقت نفسه، مسار تعزيز الهوية العربية لدرء مخاطر الأمن القومي من أطماع الخارج، ومواجهة الهويات القاتلة، ومسار تعزيز التعددية السياسية والتنمية وحقوق الإنسان من أجل تعزيز مناعة الدول من الداخل.
 
-----------------------------------
* نقلا عن دار الخليج، 14-11-2016.

رابط دائم: