مداخل محفزة لـ "بناء السلام" في مناطق الصراعات
2-10-2016

د. خالد حنفي علي
* باحث في الشئون الإفريقية
تشكل قضية "بناء السلام" إحدي أبرز المعضلات التي تواجه الدول المأزومة بالصراعات، خاصة في مرحلة ما بعد الحرب. ذلك أن السلام -كمعني يستهدف أمن ورخاء وسكينة المجتمعات- ليس خيارا يسيرا كما إشعال الحرب، لأنه  يتطلب إحداث تغييرات عميقة في سلوك الأطراف المتنازعة، وأبنيتهم الاجتماعية المنتجة للعنف، بما يدفعهم إلي التعايش والتفاعل السلمي مع آخرين يختلفون عنهم في الأهداف والمصالح.
 
وبرغم أن ثمة اتفاقا في الأدبيات والممارسات العملياتية في مناطق الصراع حول أن "بناء السلام" Peacebuilding يستهدف بالأساس إقامة علاقات سلمية بين أطراف الصراع، بما يمنع أي ارتداد في المستقبل عن اتفاقات  وقف العنف، فإن ثمة اتجاهين أساسيين في هذا الشأن، هما:
 
1-  الاتجاه الأول، وهو الأكثر ذيوعا، ويحصر "بناء السلام" زمنيا وبرامجيا في ترتيبات ما بعد وقف الصراع المسلح، ويعني تشييد الهياكل والمؤسسات التي تساعد المجتمعات الخارجة من الحروب علي إزالة عوامل العنف. وفي هذا  الإطار، تظهر جملة من القضايا، والبرامج، والأنشطة، مثل إعادة بناء مؤسسات الدولة، وإصلاح البني التحتية المدمرة، وتسريح المقاتلين، وإعادة إدماجهم، وبناء المؤسسات القضائية والعدالة الانتقالية، وغيرها. وغالبا ما تتبني المنظمات  الأممية والإقليمية هذا الاتجاه لتمييزه عن مفاهيم أخري، كالدبلوماسية الوقائية، وحفظ السلام، وصنع السلام، كما تقضي "أجندة من أجل السلام" التي طرحها الدكتور بطرس بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة في عام  .1992
 
2- الاتجاه الثاني والأخير، ويري بناء السلام من منظور أكثر شمولا وامتدادا في مراحل ومستويات الصراع المختلفة. إذ قد يسهم في جهود الإنذار المبكر، أو تهيئة وتأهيل المتنازعين لتقبل السلام، كما قد يستمر بعد توصل المتنازعين إلي  اتفاق لوقف العنف، عبر بناء الأطر والبرامج المختلفة لمنع الارتداد للصراع المسلح، كما يشملها الاتجاه الأول. وبهذا المعني الواسع، فعملية بناء السلام تشكل مسارا رابطا بين الأبنية القاعدية والفوقية في الصراعات من أسفل إلي أعلي  والعكس. أي بمعني أوضح، تخلق حواضن متدرجة دافعة للسلام في مراحل ومستويات الصراع المختلفة.
 
هنا، يتداخل بناء السلام مع مقاربات أخري، مثل منع الصراع، بل تسويته وتحويله، وإن كان يركز أيضا علي معالجة جذور العنف، ولعل ظهور الاتجاه الثاني جاء انعكاسا لتصاعد دور منظمات المجتمع المدني، سواء أكانت محلية أم  أجنبية، في مناطق الصراع، خاصة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
 
وتعزي أهمية هذا الفهم لبناء السلام إلي أن الصراعات الداخلية صارت من التعقيد، والتمدد، والتقلب في دينامياتها داخل أبنية المجتمع وقضاياه (العدالة، الثروة، الهوية)، بما يصعب من تصور أن الاتفاقات السلمية لوقف العنف قد تكون  نقطة بدء زمنية لمرحلة بناء السلام. فتلك الأخيرة قد تظل "عالقة"، أو حتي تبدأ برامجها وأنشطتها دون فعالية، لأن اتفاقات وقف العنف ذاتها قد تعاني تعطيلا عند إنفاذها، إذا ما نالت رفضا من بعض أطراف الصراع.
 
ويمكن الجمع بين اتجاهات فهم بناء السلام في مناطق الصراعات، والتي تقوم عليها فواعل رسمية وغير رسمية، عبر أكثر من منظور، الأول: ذو طبيعة بنائية، وتتعلق بإعادة بناء الدولة ومؤسساتها الأمنية، والسياسية، والقضائية،  والاقتصادية المدمرة في مرحلة ما بعد الحرب. الثاني: ذو طبيعة وقائية مستمرة تعمل علي بناء آليات للإنذار المبكر، تمنع تفجر العنف مجددا، كتدفق الأسلحة الصغيرة، وندرة الموارد، والهجرة، والنازحين وغيرها. الثالث: ذو طبيعة  تحفيزية وتأهيلية للسلام، وتتعلق أكثر بحفز وإعادة تأهيل البني المجتمعية قيميا، ونفسيا، وثقافيا باتجاه تكريس علاقات تعايش واستيعاب للآخر، وهو أمر يمتد في مراحل الصراع، وليس مقصورا علي لحظة وقف العنف.
 
مداخل محفزة:
 
علي أن السؤال المهم في هذا الإطار: متي يصبح بناء السلام فعالا أو أكثر مردودية باتجاه عدم ارتداد المجتمع للعنف مرة أخري؟ يعتمد ذلك علي عدة مداخل محفزة لذلك، ومنها، علي سبيل المثال، لا الحصر.
 
أولا- القبول المجتمعي: فأي أنشطة تدخل في نطاق بناء السلام تقتضي بالأساس قبولا عاما لدي قوي المجتمع السياسية، والاجتماعية، والعسكرية. يتحقق ذلك الأمر عبر مداخل عديدة، منها، مثلا، خبرات التعلم الاجتماعي من المآسي  الإنسانية للصراعات المسلحة. فعادة ما تدفع التكاليف الباهظة للحروب الممتدة داخل المجتمعات في نهاية المطاف إلي أنماط من السلوكيات الداعمة للتفاعل واستيعاب الآخر، وبناء علاقات سلمية تبدو لها أقل تكلفة، وأكثر فائدة في تحقيق  مصالح المتنازعين، وهو أمر كرسته تجارب تاريخية عديدة عرفتها أوروبا قبل الانتقال الديمقراطي السلمي.
 
في الوقت نفسه، فقد يتحقق القبول لبناء لسلام عبر تدخل أطراف ثالثة، سواء أكانت رسمية أم غير رسمية، لبناء قنوات اتصال وحوارات بين ممثلين عن البني الاجتماعية المتنازعة، بغية بناء مصالحات اجتماعية تشكل أساسا قاعديا لبناء  السلام.
 
ولعل بعض المنظمات الدولية غير حكومية قد مارست أدوارا في هذا المضمار. فبرغم هشاشة اتفاقات السلام في جنوب السودان، فإن منظمات كـ "سيرش فور كومن جروند"، و"مبادرة إدارة الأزمات" قد عملت، ولا تزال، علي بناء  حوارات بين القوي الاجتماعية، مثل الشباب، والمرأة، والكنيسة، كجزء من التحفيز علي السلام، وكذلك يظهر مركز الحوار الإنساني في جنيف في مناطق صراعات، كليبيا، وجنوب السودان، وسوريا، وشمال مالي، لدعم الحوارات غير  الرسمية والمصالحات المحلية، وذلك لاستشكاف فرص السلام الممكنة، أو التمهيد المجتمعي للتسويات السلمية.
 
ثانيا- عدالة التسويات السلمية وتوازنها: فكلما كانت تسويات إنهاء الصراعات المسلحة تتصف بالتوازن، والشمول، والعدالة النسبية في استجابتها لاحتياجات المتنازعين، تصبح مرحلة بناء السلام أكثر فاعلية. أما إذا لم تتحقق هذه الأمور،  أو أن يتم إبرام اتفاق وقف العنف تحت ضغوط إقليمية ودولية، فذلك قد يؤدي إلي "سلام منقوص"، أو جزئي يعرقل الشروع في عمليات بناء السلام، بل قد يكون ذلك مدخلا لصراعات مسلحة جديدة.
 
فعلي سبيل المثال، فإن توقيع الأطراف المتنازعة في ليبيا لاتفاق سلام نهائي في ديسمبر 2015 لم يكن كفيلا بوقف العنف، ولا إيذانا ببدء مرحلة بناء السلام. كما لم يسفر أيضا توقيع اتفاق سلام بين حكومة مالي وبعض حركات  الطوارق في يونيو 2013 عن إنهاء معضلة إقليم الشمال في هذا البلد. الحال ذاته في جنوب السودان، حيث لم يمنع اتفاق سلام في أغسطس 2015 من تجدد الصراعات المسلحة مرة أخري. وإن كان ذلك كله لا يمنع بالمقابل من  وجود نماذج أخري في مناطق الصراعات، اكتسبت فيها اتفاقات وقف العنف صمودا، وأهلت المجتمعات نسبيا لمرحلة بناء السلام، كما في أنجولا، وسيراليون، وغيرهما.
 
ثالثا- حساسية الدعم الخارجي: إذ يتطلب بناء السلام توافقا بين القوي الخارجية علي دعم البلد المنكوب بالصراع المسلح في مجالات إصلاح الاقتصاد، والبنية التحتية المدمرة، والمساعدة في برامج نزع السلاح، وتدريب الأمن،  والحوكمة، وتمويل برامج إعادة النازحين، وغيرها. علي أن ذلك الدعم الخارجي يتطلب نوعا من الحساسية Sensitivity، أي إدراك طبيعة المجتمعات المحلية، وثقافتها، وأولوياتها، كي لا يتعرض بناء السلام للمقاومة عند  قيام الدول الخارجية علي تطبيقه. ففي نهاية المطاف، فإن من يقرر استدامة السلام من عدمه هم السكان المحليون، وحكومة بلدهم، وليست القوي الخارجية.
 
وربما ثمة مخاوف في منطقتنا العربية من أن تتحول التدخلات الخارجية، التي عززت الصراعات الداخلية المسلحة، إلي تكريس مصالحها، وفرض أولويات علي مرحلة بناء السلام. فمثلا، فإن حجم التدخلات الخارجية التي أججت  الصراع السوري لا يمكن ببساطة تجاهل مصالحها في مرحلة ما بعد توقف العنف، حال حدوثها، وكذلك الحال في ليبيا، واليمن.
 
رابعا- ديمقراطية الحكم وقوة الدولة: حيث إن استهداف اتفاقات السلام لبناء نظام ديمقراطي في مرحلة ما بعد العنف لاستيعاب مطالب أطراف الصراع (أيا كانت انتماءاتهم أو خلفياتهم العرقية، أو الدينية، أو المناطقية) يشكل دعما لبناء  السلام، وإن كان ذلك يتطلب ألا تكون الديمقراطية مجرد إجراءات تخلو من توافق اجتماعي، ومشاركة لجميع أطراف الصراع، وإلا فستصبح عقبة أمام السلام. فالصراع الليبي -لا يزال مشتعلا- بعد فشل استحقاقين انتخابيين تشريعيين  في عامي 2012 و2014، لأنه لم تبن مؤسسات أخري للدولة أكثر أهمية في إقرار السلام، مثل المؤسسة الأمنية الموحدة، كما لم تعالج أيضا أزمات جوهرية كالموارد، ونزع السلاح.
 
هنا، من المهم الإشارة إلي ارتباط الديمقراطية، كنظام سياسي يتيح للأفراد الحريات، والمشاركة، واستيعاب الأقليات، ببناء مؤسسات قوية للدولة لدعم مرحلة بناء السلام، فالأمران (الديمقراطية وقوة الدولة) مرتبطان ببعضهما بعضا،  كمدخل لفعالية بناء السلام واستدامته، وهو ما تحتاج إليه منطقتنا العربية لتجاوز صراعاتها الراهنة.
 
خامسا- إشراك المجتمعات المحلية في بناء السلام: فبرغم أن أحد الملامح التي أنتجتها صراعات المنطقة العربية هو صعود قوة المجتمعات المحلية (قبائل، مناطق، طوائف)، وانكشاف ضعف الدولة القومية ووظائفها، فإن محاولات السلام  الراهنة تتجه أكثر نحو الفاعلين والأطراف العسكريين والسياسيين لإيقاف العنف، مقارنة بالفواعل المحلية التي تبدو مؤثرة في ظل أزمة الدولة. فمفاوضات السلام الجارية في الصراع اليمني اقتصرت علي المتنازعين السياسيين  والعسكريين (الحوثيون وحلفاؤهم في مواجهة حكومة عبد ربه منصور هادي وحلفائها) دون بناء مسارات محلية تستدعي قوة القبيلة في هذا البلد كعامل ضاغط للسلام. ففي ليبيا مثلا، تم استدعاء المجلس البلدي في مصراتة للحوار  الوطني الليبي، وهو ما أسهم بقدر ما في الضغط للتوصل لاتفاق الصخيرات .2015
 
أهداف الملحق وقضاياه:
 
في ضوء ما سبق، سعي ملحق "اتجاهات نظرية" في عدده الجديد إلي مناقشة بناء السلام عبر ثلاثة مستويات أساسية، الأول: فهم تطور المقاربات النظرية الحاكمة لهذه القضية، وتبيان عناصرها، وعوامل فعاليتها. الثاني: النظر في تجليات  تلك المقاربات في تجارب بناء السلام حول العالم. أما الثالث والأخير، فهو مدي ملاءمة المقاربات والتجليات العالمية لبناء السلام في منطقتنا العربية.
 
وبرغم تعدد قضايا بناء السلام وتشعبها، من حيث الأنشطة والبرامج، فإن الملحق قد اختار أربعا منها تشكل هاجسا محوريا علي المستويين النظري والتطبيقي في منطقتنا العربية. واستبق ذلك بطرح أبرز التطورات في مفهوم وأدبيات بناء  السلام، وكيف أنها انتقلت من إدارة الصراع إلي تحويل اتجاهه. أولي تلك القضايا هي "بناء الدولة" من منظور بناء السلام، حيث تمت مناقشة العوامل المؤثرة واللازمة لبناء مؤسسات الدولة في مرحلة ما بعد الصراع، وإشكالياتها. أما  ثانية القضايا، فتتعلق بمسألة إعادة إدماح المسلحين، والتي تشكل الهم الأكبر لمرحلة ما بعد وقف العنف. إذ ناقش الملحق النماذج المدنية والعسكرية لاستيعاب التنظيمات المسلحة، وما قد تثيرهما من معضلات عند التطبيق علي أرض  الواقع.
 
ثالثة القضايا تناولت العلاقة الشائكة بين الأقليات وبناء السلام، عبر طرح النموذج الأنسب للتعاطي مع هذه القضية، من خلال ثلاثة مجالات أساسية، هي المؤسسات الديمقراطية داخل الدولة، ومؤسسات المجتمع المدني، والقدرات  المحلية. أما رابعة القضايا وآخرها، فقد ناقشت معضلة الموارد وبناء السلام، من حيث معني العلاقة بينهما، وأنماط صراعات الموارد، وكيف تحولت من عامل لتأجيج الصراعات إلي مدخل لبناء سلام مستدام.

رابط دائم: