سياسات الخشية: الاستجابة العربية لتحولات السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط
27-10-2016

أشرف دحلان
* باحث فلسطيني في العلاقات الدولية
يستدعي تحليل الكيفية التي تتعاطى بها الدول العربية مع الولايات المتحدة، وسياستها تجاه المنطقة، الانتباه أولا إلي غياب أي حضور لمفهوم النظام العربي في إدارة هذا التعاطي، وثانيا إلي صعوبة الوقوف على رؤية بعض الدول العربية، نظرا لانتقالها إلي حالة الدولة الفاشلة (ليبيا واليمن نموذجا(. لا ينطبق هذا العجز عن بناء مواقف إزاء السياسة الأمريكية على سوريا، رغم دخول البلاد في حرب أهلية، وتدخل قوات عسكرية خارجية، لأن النظام الحاكم لا يزال قادرا على الصمود، وبناء مواقف سياسية داخلية، وإقليمية، ودولية. 
 
في هذا الإطار، ستحاول هذه الورقة تحليل محددات إدراك دول عربية رئيسية للتحولات في السياسة الأمريكية إزاءها وإزاء المنطقة، وأنماط الاستجابة العربية لهذه التحولات. وستركز الورقة على المملكة العربية السعودية، ومعها دول الخليج، ومصر، وسوريا، لما لهذه الدول من أهمية، ولأنها في القلب من السياسة الأمريكية تجاه المنطقة وتحولاتها، وأخيرا لنضج مواقفها إزاء التحول في سياساتها تجاه المنطقة.
 
أولا - أنماط إدراك واستجابة القيادة المصرية:
 
يرتبط الفهم المصري للتحول في السياسة الخارجية الأمريكية بالموقف الذي تبنته الإدارة الأمريكية من ثورة 30 يونيو، حيث عدّتها "انقلابا على شرعية الرئيس"، و"تغييبا لمفهوم الديموقراطية وتداول السلطة(1). ثم عادت للتعامل مع الأمر الواقع، بعد انتهاء الدولة المصرية من تنفيذ خريطة الطريق. وعلى كل حال، لا تبدو العلاقات المصرية الأمريكية في أحسن أحوالها، ومن الواضح أنها لا تزال تعاني أزمة ثقة، ولا يمكن الآن أن نسبغ عليها صفة الإستراتيجية، حتى وإن استمرت الولايات المتحدة في تقديم مساعداتها السنوية لمصر، بما فيها العسكرية.
 
1- محددات موقف مصر من التحولات الأمريكية:
 
يمكن الوقوف على بعض المحددات التي تبني عليها مصر الموقف من التحول الذي طرأ على السياسة الخارجية الأمريكية، من خلال النقاط الآتية:
 
أ- المساعدات الأمريكية لمصر:
 
جرت العادة، عند تقييم الموقف المصري من السياسة الخارجية للولايات المتحدة، على أن يتم ربطه بما تقدمه الإدارة الأمريكية من مساعدة سنوية لمصر. وقد يبدو هذا الأمر منطقيا ومقبولا في مرحلة ما قبل ثورة  يونيو. غير أنه وبتتبع المواقف المصرية من السلوك الأمريكي، يمكن القول إن مصر تجاوزت إلى حد كبير تأثير المساعدات في موقفها، بعد أن تبنت الولايات المتحدة بعض السياسات التي تهدد مصيرها ومستقبلها. صحيح أن المساعدات العسكرية الأمريكية تغطي 80 تقريبا من مشتريات السلاح المصرية(2)، لكن مصر بدأت في تجاوز هذا الأمر بسياسة الخطوة خطوة، من خلال استراتيجية تنويع مصادر السلاح، وتعميم علاقات الشراكة، بما يسهم في التحرر من الضغط الأمريكي باستخدام سلاح المعونات.
 
ب- الموقف الأمريكي من التغيرات في المنطقة:
 
أسهم الموقف الأمريكي من الحراك الشعبي في المنطقة العربية، وما تبعه من تحولات سياسية، في زعزعة عناصر الثقة التي قامت عليها علاقة مصر بالولايات المتحدة، ولم يعد من الممكن المراهنة على الموقف الأمريكي، وصار من الصعب على أي نظام سياسي يطمح للاستقرار والتنمية أن يربط مصيره بتحالف مع الإدارة الأمريكية، خاصة بعد أن تلاعبت، عبر تفعيل أدواتها، بمسار الحراك الشعبي، ودفعت باتجاه إحلال قوي سياسية، ضمن ترتيبات تتناسب مع مشاريعها ومخططاتها.
 
ج- علاقة الولايات المتحدة بحركة الإخوان:
 
أثر الدعم الأمريكي لحركة الإخوان، بعد ثورة 25 يناير، تأثيرا واضحا في الموقف الذي تبنته القيادة المصرية، بعد ثورة 30 يونيو، وتسبب في تراجع العلاقات المصرية - الأمريكية إلى حدها الأدني. ففي الوقت الذي صنفت فيه مصر حركة الاخوان كحركة إرهابية محظورة، أصرت الولايات المتحدة على عدّها جماعة سلمية تمثل الإسلام المعتدل، يجب أن يتم شملها في العملية السياسية(3). وفي هذا ما يشير إلى تشكيك الإدارة الأمريكية في شرعية النظام السياسي المصري الحالي، رغم تراجعها من الناحية العملية عن هذا التشكيك. ومع ذلك، ترك هذا الموقف آثارا واضحة على الكيفية التي بلور فيها النظام المصري الجديد موقفه من التدخلات والسياسات الأمريكية في المنطقة، وفي مصر على وجه الخصوص.
 
د- العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية:
 
تقيم مصر علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل من زاوية تأثيرها في الصراع الدائر بين الفلسطينيين وإسرائيل، وفي مفاوضاتهما العالقة. وتنظر مصر إلى مسألة الصراع على أنها أحد العوامل المؤثرة، بشكل مباشر، في الأمن القومي المصري. ولهذا، يدخل الدعم الأمريكي لإسرائيل في حسابات الأثر على المصلحة القومية المصرية، وعلى التوازن في المنطقة، ويقود إلى اختلالات لمصلحة إسرائيل. ولهذا، يظل الانحياز والدعم الأمريكي لإسرائيل، بما يجعلها في حالة تفوق نوعي، مثيرا لقلق القيادة المصرية.
 
هـ-  الموقف الأمريكي من القوي الدينية المتطرفة:
 
تشير مواقف الإدارة الأمريكية من القوي الإرهابية إلى ازدواجية واضحة في المعايير. ففي الوقت الذي أعلنت فيه عن نيتها مكافحة هذه القوي، آثرت التزام الصمت، وعدم دعم الجهود المصرية في محاربة القوي الإرهابية المتمركزة في شبه جزيرة سيناء(4)، كما أنها لم تؤيد العمليات العسكرية النوعية التي نفذتها القوات المصرية ضد تنظيم "داعش" في ليبيا. وقد أثار هذا الموقف العديد من التساؤلات حول التوجهات الأمريكية في التعامل مع مصر. ففي الوقت الذي تشن فيه الولايات المتحدة حربا ضد تنظيم "داعش" في العراق وسوريا، فإنها تمتنع عن تأييد الجهود المصرية المشابهة، وتدعو إلى البحث عن خيارات سياسية للتعامل مع القوي الإرهابية، خاصة في ليبيا. ومن الواضح أن هذا النوع من المواقف عزز من حالة الشك وعدم اليقين عند القيادة المصرية من أن التحولات في السياسة الأمريكية لن تكون في مصلحة دول المنطقة وشعوبها.
 
2- نماذج للإدراك والاستجابة في الموقف المصري:
 
أسهمت المواقف الأمريكية من التحولات السياسية، التي شهدتها مصر بعد ثورة 25 يناير، في بلورة الموقف المصري من التحولات التي طرأت على السياسة الخارجية الأمريكية. ومن الواضح أن تذبذب الموقف الأمريكي من الثورة، ومن ثم مطالبة نظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك بضرورة الرحيل، ودعم حركة الاخوان، ومعارضة ثورة يونيو، إضافة إلى المواقف الأمريكية تجاه أزمات المنطقة، كل ذلك شكل وصفة لاستخلاص العبرة عند القيادة المصرية، مما أفقدها عنصر الثقة في الولايات المتحدة، وعمق من حالة الشك تجاه سياساتها. وعلى ضوء هذا الفهم، يمكن الاستدلال على الكيفية التي أدركت بها القيادة المصرية مضمون التحول في السياسة الأمريكية من خلال المعطيات الآتية:
 
أ- إعادة النظر في وصف العلاقة مع الولايات المتحدة:
 
وصفت العلاقات المصرية - الأمريكية بالاستراتيجية، حتى نهاية حقبة الرئيس الأسبق حسني مبارك، وصنفت على أنها من أهم العلاقات التي تربط الولايات المتحدة بحلفائها حول العالم. غير أن هذا الوصف لم يعد ينطبق على العلاقة في مرحلة ما بعد ثورة 30 يونيو، وهذا ما تفيد به مؤشرات سلوك السياسة الخارجية المصرية، من حيث التباين في وجهات النظر مع الولايات المتحدة حول أغلب القضايا المتعلقة بالمنطقة، مثل الأزمة السورية، والوضع في ليبيا، إضافة إلى تراجع مستوي اللقاءات الثنائية بين البلدين، وانخفاض مستوي التمثيل فيها. ففي الوقت الذي زار فيه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي روسيا الاتحادية، والصين، ودولا أوروبية وآسيوية أخري، فإنه لم يبد اهتماما ملحوظا بزيارة الولايات المتحدة، وظلت العلاقات في حالة فتور، وإن تحاور الطرفان حول آلية ونوعية المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة لمصر.
 
ب-  تغيير مفهوم التحالف مع القوي الكبري:
 
تقود المقارنات بين الكيفية التي أدارت بها مصر علاقاتها مع الدول الكبري، طوال الفترة التي حكم فيها الرئيس مبارك، وفي الفترة الوجيزة التي سيطر فيها الإخوان، والكيفية التي يدير بها النظام المصري الحالي، إلى حقيقة التحول البنيوي الكبير في مضمونها، وإدراك صعوبة الاستمرار في اختزال العلاقات الدولية في العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. ويبدو أن القيادة المصرية استفادت من تجربة ما بعد ثورة 25 يناير وحتى ثورة 30 يونيو، والتي أثبتت فيها السياسة الأمريكية فرضية قيامها على المصلحة الأمريكية فقط، دون الالتفات لمصالح الدول الشريكة. ولهذا، كان لزاما على مصر البحث عن تحقيق التوازن في علاقاتها مع الدول الكبري، وهذا ما أكده الرئيس عبد الفتاح السيسي، وترجمه من الناحية العملية بزيارته الخارجية الأولي لروسيا، ثم قيامه بزيارات أخري إلى الصين، وبريطانيا، وفرنسا، وغيرها من الدول ذات الوزن النسبي، والدخول معها في شراكات اقتصادية وعسكرية متعددة.
 
ج-  إعادة صياغة التحالفات الإقليمية:
 
أسهمت التحولات التي شهدتها المنطقة العربية في إعادة رسم العلاقات والتوازنات الإقليمية، حيث اختفت التصنيفات التقليدية لعلاقة الدول داخل الإقليم، وحل محلها فسيفساء مركبة للعلاقات، تقوم على أسس عرقية، ومذهبية، وطائفية، وإثنية، فضلا عن تحول بعض الدول إلى دول فاشلة، تسودها حروب أهلية، وقبلية، وتقسيمات جغرافية، ودخول البلدان العربية، التي شملها التغيير، مرحلة سياسية واجتماعية لم تعهدها من قبل، تركت أثرها على مفهوم الدولة القطرية، وعلى شكل التوازنات الإقليمية، الأمر الذي سهل على الولايات المتحدة تنفيذ رؤاها حول الشرق الأوسط الكبير. غير أن هذا الأمر لم يدم طويلا، حيث تعثرت تلك الخطط بعد ثورة 30 يونيو عام 2013 في مصر، والتي أحدثت تحولا جوهريا في مسار الشرق الأوسط.
 
بدأت القيادة المصرية، بعد انتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي، مهمتها في إعادة صياغة الحالة الإقليمية، من خلال جهودها في حل الأزمة الليبية، وامتناعها عن المشاركة العسكرية المباشرة في "عاصفة الحزم" في اليمن، إضافة إلى تبنيها موقفا متزنا من الأحداث الدائرة في سوريا، وتقديمها مبادرة لحل الأزمة، في الوقت الذي عززت فيه علاقتها مع دول الخليج، باستثناء قطر، ودعمت اتجاهات الحفاظ على شكل الدولة القطرية، دون المبالغة في استعداء إيران. أما فيما يتعلق بالحالة الفلسطينية، فبدأت مصر في استعادة دورها التاريخي، وإن لم يكن بالشكل المطلوب، من خلال دعمها لمواقف القيادة الفلسطينية، ورعايتها للمصالحة الفلسطينية الداخلية، وتقديم رؤية واضحة حول العودة إلى طاولة المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي.
 
د- تنويع مصادر التسلح:
 
عكست الاتفاقيات العسكرية التي أبرمتها مصر مع دول مختلفة، مثل روسيا وفرنسا، الاتجاهات الجديدة لدي القيادة المصرية نحو تقليل الاعتماد على الصفقات أو المساعدات العسكرية الأمريكية، وهذا ما أكدته الصفقة مع فرنسا لشراء طائرات الرافال، وحاملة الطائرات الميسترال، إضافة إلى الصفقة التي تشمل تزويد مصر بطائرات ميج 35 الروسية. وفي هذا ما يعكس عناصر إدراك مصر لدورها القومي والإقليمي، وما يجب أن تقوم به في ظل التحولات التي طرأت على السياسات الأمريكية تجاهها، وفي ظل حالة الاضطراب والعنف التي تسود المنطقة، وتصاعد التهديدات لأمنها القومي، وتعدد مصادرها، في الوقت الذي تنشط فيه أمريكا للمساس بالقدرة العسكرية المصرية، وخلخلة التوازن الإقليمي.
 
ثانيا - أنماط الإدراك والاستجابة الخليجية:
 
على الرغم من وصف القيادة السعودية لعلاقتها بالولايات المتحدة بالتاريخية والاستراتيجية، وعلى الرغم من التباين في مكانة الدولة الخليجية على أجندة المصالح الأمريكية، فقد بدأت السعودية ودول الخليج العربي جميعها في السنوات الأخيرة في إعادة تقييم شاملة لهذه العلاقة، بسبب التهديدات الحقيقية التي باتت تحدق بمستقبلها، والتي عززتها السياسات الأمريكية الجديدة في المنطقة.
 
1- محددات الموقف الخليجي من التحولات الأمريكية:
 
أ- تصاعد الدور الإيراني:
 
تربط السعودية بين تصاعد دور إيران وسياسة الولايات المتحدة في المنطقة، ويعود الأمر إلى فترة احتلال العراق عام 2003، ومحاولة إعادة تشكيل الخريطة الجغرافية والسياسية للشرق الأوسط، الأمر الذي سمح لإيران بأن تتلاعب بالورقة الطائفية، وتعزز نفوذها في محيط السعودية، وهو نفوذ امتد ليشمل العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، وبعض دول الخليج. وتزايد هذا الدور بعد الحراك الشعبي الذي شهدته المنطقة العربية نهاية عام 2010، حيث دعمت إيران عملية التغيير في البحرين، وتدخلت عسكريا لمصلحة النظام في سوريا. وتري القيادة السعودية أن مواقف الولايات المتحدة من هذا التدخل لم ترق إلى الحد المطلوب. بل إن سياسة عدم التدخل المباشر الذي انتهجتها الإدارة الأمريكية، والتوصل إلى اتفاق ينهي الأزمة النووية الايرانية، وإشراك إيران في محاربة "داعش"، وتباين الموقف من الأزمة في سوريا، كل ذلك عمق من دور إيران الإقليمي إلى الحد الذي يشكل تهديدا لأمن المملكة.
 
ب- الحراك الشعبي في المنطقة العربية:
 
تري القيادة السعودية في المطالبات الأمريكية بالإصلاح السياسي، وتعزيز الديموقراطية في المنطقة وصفة عملية للقضاء على أنظمة الحكم في الخليج. كما أنها تربط بين الحراك الشعبي في المنطقة العربية، الذي قاد إلى سقوط أنظمة حليفة، تقليديا، للولايات المتحدة، وهذه المطالبات، خاصة بعد تصريح الرئيس أوباما بأن الخطر الحقيقي الذي يواجه أمن الخليج ليس إيران بدرجة أولي، وإنما المشاكل الداخلية التي تعانيها تلك الدول، بسبب غياب الديموقراطية، وحرية التعبير، وتصاعد الخطاب المتشدد(5). وفي هذا ما يشير إلى التحول الجوهري في الموقف الأمريكي من أنظمة الخليج الحاكمة، الأمر الذي دفعها لتبني مواقف تتعارض مع الرؤي التي عبرت عنها السياسات الأمريكية تجاه الحراك، وتبني مواقف متشددة تجاه الإخوان المسلمين، حليف الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الحراك، رغم الرعاية السعودية التاريخية لها، وتأييد ثورة 30 يونيو المصرية، التي أنهت حكم حركة الاخوان، وأتبعتها بعمليات دعم سياسي واقتصادي للنظام المصري الجديد.
 
ج - تبدل دور القوي السلفية:
 
شكل فكر المؤسسة الدينية السعودية إحدي أهم الركائز التي استندت إليها حركات سلفية، مثل تنظيمي القاعدة، و"داعش". ويكمن خطر تصاعد دور هذه القوي في التحول الكبير الذي طرأ على مواقفها. فبدلا من أن تقوم بدورها المفترض في تحجيم المسلمين الشيعة، تحولت إلى قوي إرهابية، تسعي إلى إقامة دولة الخلافة. وفي هذا ما يهدد أنظمة الحكم في الخليج، فضلا عن قدرتها على استقطاب الشباب الخليجيين الذين تربوا فكريا في مدرستها نفسها، الأمر الذي دفع بالقيادة السعودية إلى البحث عن سبل للقضاء على هذه القوي. في حين أبدت الولايات المتحدة نوعا من عدم الاكتراث بذلك، باستثناء التصريحات الإعلامية، ولم تقدم على خطوات حقيقية للقضاء على قوي التطرف، وغضت الطرف عن تدخل روسيا لمواجهتها، خاصة في سوريا، ودعمت جهود إيران في العراق، مما عزز من دور منافسي المملكة، وشرعن لإيران دورها في المنطقة.
 
2- نماذج للإدراك والاستجابة السعودية والخليجية:
 
يمكن الاستدلال على درجة إدراك السعودية ودول الخليج للتحولات في السياسة الخارجية الأمريكية، من خلال العديد من المواقف والسياسات التي انتهجتها القيادات الخليجية، مثل:
 
أ- الانفتاح على القوي الدولية الأخري:
 
يأتي الانفتاح على القوي الدولية، والبحث عن عناصر شراكة وتعاون معها، على رأس السياسات الخليجية الجديدة. فقد عمدت السعودية، ومعها أغلب دول الخليج، إلى تعزيز سياسة الانفتاح على روسيا والصين، ردا على سياسات الولايات المتحدة، والتي صنفت كتخل عن أمنها واستقرارها لمصلحة امتداد النفوذ الإيراني وتناميه. وقد تجلي واضحا التوجه الخليجي الجديد فيما نتج عن لقاء ولي ولي العهد، محمد بن سلمان، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ملتقي سان بطرسبرج الاقتصادي عام 2015، حيث أبرمت السعودية مجموعة اتفاقيات في مجالات الطاقة، والاقتصاد، وتبادل التكنولوجيا النووية والعسكرية(6).
 
ب- دعم النظام المصري الجديد:
 
دعمت دول الخليج، باستثناء قطر، ثورة 30 يونيو المصرية التي أنهت حكم حركة الاخوان المسلمين. وقد دفع الكثير من العوامل بدول الخليج لتبني هذا الموقف، منها الموقف الأمريكي، مع الأخذ في الحسبان الأسباب الأخري. فعلى الرغم من المعارضة الأمريكية لثورة 30 يونيو المصرية، وتبنيها مواقف مؤيدة لحركة الاخوان، فإن ذلك لم يمنع دول الخليج، خاصة السعودية والإمارات، من تقديم جميع أشكال الدعم المادي والاقتصادي، في تحد واضح للولايات المتحدة. ويبدو أن دول الخليج قد أدركت تماما خطورة المراهنة على الموقف الأمريكي، بسبب تخليه عنها في قضايا مصيرية عديدة، إضافة إلى تخليه عن أنظمة حليفة في المنطقة.
 
ج - التدخل المباشر في مناطق الأزمات:
 
اعتادت دول الخليج، في مواجهة الأخطار، على معونة الولايات المتحدة السياسية والعسكرية، وشكل التحالف معها نوعا من الحماية، ولذلك سمحت لها بإقامة أكبر قواعدها العسكرية على الأراضي الخليجية. بيد أن هذا الاعتماد قد تغير في حقبة ما بعد الحراك الشعبي في المنطقة العربية. ففي ضوء انكفاء الإدارة الأمريكية، وتحول سياساتها، وتراجعها عن التدخل المباشر في أزمات المنطقة، قررت دول الخليج الاعتماد على قدراتها في تنفيذ سياساتها، ودحر الأخطار التي تواجه أمنها القومي، وهذا ما تجسد عمليا في تدخل قوات درع الجزيرة في البحرين، إبان الاحتجاجات التي قام بها المواطنون الشيعة، وكذلك التدخل العسكري المباشر في اليمن لمواجهة قوات الحوثيين المتحالفة مع قوات الرئيس السابق على عبد الله صالح، هذا إضافة إلى الدعم الخليجي العسكري واللوجيستي للقوي السورية المعارضة.
 
د- تقليل الاعتماد على النفط:
 
اعتمدت النظم الاقتصادية الخليجية، منذ نشأتها، على ما تمتلكه من مخزون نفطي كبير. وأسهمت الطفرة النفطية في استقرار الحياة السياسية، رغم الضغوط الاجتماعية التي نتجت عن تجديد الاقتصاد. وتعد دول الخليج نموذجا تطبيقيا للدولة الريعية، التي تتمتع بوفرة هائلة من الموارد الطبيعية، ولا تفرض ضرائب على مواطنيها. وقد أدي ذلك إلى ضعف الرابط الاقتصادي بين الدول ومجتمعاتها، وعمق من الفجوة بين السياسات الاقتصادية الدولية والمحلية، ودفع بها إلى الاعتماد على عائدات النفط دون غيرها، والتركيز على الأسواق الخارجية، والتحالفات مع القوي العالمية. ويبدو أن دول الخليج، وبسبب التغيرات في البنية الجيوسياسية للمنطقة، والتحول في مفهوم التحالفات الدولية والإقليمية، ونتيجة تزايد الضغوط الداخلية، وتراجع أسعار النفط، صارت مطالبة بالبحث عن نموذج جديد للنظام الاقتصادي فيها، وهذا ما عبرت عنه كل من السعودية والإمارات، حيث أعلنتا عن مجموعة خطط وبرامج لبناء اقتصاد لا يعتمد على النفط. وهذا ما تضمنته رؤية الشيخ محمد بن راشد، نائب رئيس دولة الإمارات، الذي يري أن بلاده ستعمل على وضع برنامج وطني شامل لتحقيق هذه الرؤية، وصولا إلى اقتصاد مستدام للأجيال المقبلة، لا يعتمد على النفط، وهذا ما تضمنته أيضا الخطة السعودية لتحرير الاقتصاد من الاعتماد الكثيف على النفط، عبر إصلاحات جذرية، وعرفت باسم رؤية السعودية 2030.
 
هـ-  تبني مواقف مستقلة:
 
تدرك الأسر الخليجية الحاكمة، خاصة في السعودية، صعوبة بناء تحالفات استراتيجية بديلة عن تحالفها التاريخي مع الولايات المتحدة، في ظل تسارع الأحداث، وتفاقم أزمات المنطقة. ويبدو أن علاقاتها الوليدة مع القوي الكبري يسودها بعض الخلاف في وجهات النظر، وتحتاج إلى وقت طويل حتى تصل إلى حد الثقة المطلوب. ولذلك، تجد نفسها مضطرة، إلى حين بناء تفاهمات جديدة مع الولايات المتحدة أو غيرها من القوي، إلى الاعتماد النسبي على النفس، من أجل ضمان فرص البقاء والاستمرار. ويتجسد هذا الفهم فيما يعرف حاليا في السعودية بعقيدة سلمان، نسبة إلى ولي ولي العهد، التي تقوم على استقلال الموقف السعودي، والاعتماد على القرارات التي تحقق المصلحة السعودية. ولتقوية دورها الريادي، تنوي المملكة استثمار 150 مليار دولار لتطوير وتوسيع قدراتها العسكرية من أجل إنجاز أهداف السياسة الدفاعية الخارجية الجديدة(7)، إضافة إلى دعوتها لتشكيل تحالف عسكري سني.
 
ولتأكيد سياستها المستقلة، بادرت السعودية، ومعها بعض دول الخليج، إلى التدخل العسكري المباشر في اليمن. كما أنها بلورت مواقف مستقلة، وأحيانا متعارضة مع المواقف الأمريكية، فيما يتعلق بالأزمة السورية، وفي الموقف من مصر بعد ثورة 30 يونيو، فضلا عن تدخلها العسكري في البحرين. ويري بعض القيادات السعودية أن على المملكة القيام بما تراه مناسبا لمصالحها، لأن الولايات المتحدة فشلت في التدخل بفاعلية في الصراع السوري، والأهم أنها عززت من موقع الخصم الإيراني بتوقيع الاتفاقية التي أنهت أزمة البرنامج النووي، وبتناغم مواقفها مع إيران فيما يخص الوضع في العراق.
 
ثالثا - أنماط الإدراك والاستجابة السورية:
 
يحتكم تقييم مسألة الإدراك والاستجابة إلى تحليل مضمون العلاقات السورية - الأمريكية منذ بدايتها، والتي يمكن وصفها بعلاقات الممكن، أو الحد الأدني، التي شابها كثير من التوتر، وانعدام الثقة، نظرا لتباين مواقف الطرفين في أغلب القضايا الإقليمية والدولية، وبسبب تحالف سوريا الاستراتيجي مع الاتحاد السوفيتي السابق، ومع روسيا الاتحادية في عهد الرئيس بوتين.
 
1- محددات الموقف السوري من التحولات الأمريكية:
 
أ- العلاقة السورية - الروسية:
 
توصف العلاقات السورية - الروسية بأنها أحد أهم أشكال العلاقات الاستراتيجية التي تربط قوي إقليمية بأخري دولية. فقد شكلت الدولة السورية الحليف الأبرز للاتحاد السوفيتي في المنطقة، قبل انهياره. غير أنها تراجعت إلى الحدود الدنيا مع روسيا في حقبة ما قبل الرئيس بوتين، مع احتفاظ روسيا بقواعدها العسكرية في سوريا، مرفئها الوحيد على البحر المتوسط. وفي فترة الركود هذه، حاولت القيادة السورية البحث عن قواسم مشتركة مع الولايات المتحدة حول القضايا التي تخص المنطقة، وبرز ذلك جليا في موافقة سوريا على المشاركة في التحالف الدولي الذي قادته الولايات المتحدة في حرب الخليج الثانية عام 1991. ومع ذلك، عادت علاقة الطرفين إلى التوتر، الذي وصل إلى حد الذروة بعد الحراك الشعبي الذي شهدته المنطقة العربية نهاية عام 2010. وبلغ حد العداء بعد تحول الأحداث في سوريا إلى حرب أهلية، وتدخل قوي دولية وإقليمية في الأزمة. وفي الوقت ذاته، تعدت العلاقات الروسية السورية حدود التحالف الاستراتيجي إلى الحد الذي استخدمت فيه روسيا قوتها العسكرية لحماية النظام السوري، وسمح لها بالعودة كلاعب رئيسي في المنطقة.
 
ب - العلاقة مع إيران:
 
بدأت العلاقات السورية - الإيرانية، من الناحية العملية، بعد قيام الثورة في إيران عام 1979. غير أنها ظلت، حتى وفاة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، تراوح حد التعاون والتنسيق المشترك في بعض القضايا(8). ومع تولي الرئيس بشار الأسد لرئاسة الجمهورية، ونتيجة لبعض التحولات في بنية الإقليم، عززت القيادة السورية العلاقة مع ايران، حتى وصلت إلى التحالف الاستراتيجي، والتطابق في العديد من الأهداف والوسائل. وتعود الرغبة السورية في التحالف مع إيران إلى اعتقادها بأن إيران هي الشريك الوحيد الموثوق به لمواجهة ما تمثله الولايات المتحدة من عداء لكلا البلدين. كما أن هذا التحالف سيعطي سوريا أهمية وقدرة على مواجهة الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة، خاصة السعودية.
 
ج - الصراع العربي - الإسرائيلي:
 
من الناحية النظرية، لا تزال القيادة السورية تقدم نفسها كقائد لمنظومة الممانعة العربية، التي لا تزال تعد إسرائيل العدو الأول، وتري أنها لا تزال في حالة حرب معها. ولما كانت الولايات المتحدة الداعم الأول لإسرائيل، فإنه من الطبيعي أن تتبني سوريا موقفا سلبيا منها، وتري أن تدخلها وحلفائها في الأحداث الدائرة في سوريا لا يعدو كونه جزءا من مخططات معدة مسبقا للقضاء على النظام السوري المناهض لإسرائيل، ومحاولة أن يستبدل به قوي سياسية حليفة، تضمن بقاء وتفوق إسرائيل، ولا تشكل مصدرا لتهديدها.
 
2- نماذج للإدراك والاستجابة عند القيادة السورية:
 
يرتبط الموقف السوري من السياسات الأمريكية الجديدة بطبيعة العلاقات بين الطرفين، والسياسات السورية المسبقة، وبالتحالفات مع كل من روسيا وإيران، فهو انعكاس لعلاقة العداء بين الطرفين. ويمكن حصر بعض نماذج ذلك فيما يأتي:
 
أ- تعزيز التحالف مع روسيا:
 
تدين القيادة السورية لحليفتها روسيا الاتحادية بالفضل في الحفاظ على الدولة السورية. وفي ضوء تسارع الأحداث، وتدخل الولايات المتحدة، وحلفائها الأتراك، والسعوديين، والقطريين لمصلحة قوي المعارضة، ودعمها عسكريا ولوجيستيا، صار من الصعب على سوريا التخلي عن حلفائها من الروس والإيرانيين. ولم تكن القيادة السورية تملك سوي تعزيز علاقتها مع روسيا. وفي الوقت نفسه، لا يمكن أن يوصف هذا التحالف بأنه خيار المضطر، لكنه يمثل الخيار الاستراتيجي لسوريا، سواء كان ذلك بسبب الأزمة الحالية، أو ضمن تصورات المستقبل. وغالبا ما سيزيد تعزيز هذا التحالف من حدة الأزمة بين روسيا والولايات المتحدة، وربما ينعكس على المواقف الدولية من أزمات قائمة في مناطق أخري، خاصة في منطقة القرم، وفي أوكرانيا. ولا مغالاة إذا ما افترضنا أنه سينعكس كذلك على الأزمة المتعلقة بنشر الدرع الصاروخية في أوروبا، وتوسيع حلف الناتو.
 
ب- الاستمرار في معارضة السياسات الأمريكية:
 
ليس لدي القيادة السورية ما تخسره، حال استمرارها في معارضة السياسة الأمريكية تجاه المنطقة. بل على العكس، ستستفيد من هذه المعارضة، التي ستسمح لها باستمرار الحماية التي توفرها روسيا الاتحادية، عبر دعمها السياسي، والعسكري، واللوجيستي، وستضمن استمرار التدخل الايراني المباشر، عبر مشاركة القوات العسكرية الإيرانية في المعارك الدائرة في سوريا، فضلا عن ضمان بقاء قوات حزب الله اللبناني، حليف إيران، داخل الأراضي السورية. كما ستمكن هذه المعارضة القيادة السورية من مواجهة بعض الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة، مثل السعودية وقطر.
 
ج - إمكانية التقارب مع النظام المصري الجديد:
 
بلغت العلاقات المصرية - السورية حد القطيعة في عهد الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، بعد تبنيه سياسة خارجية تجاه سوريا، توافقت من الناحية العملية مع رؤية حركة الاخوان المسلمين، التي بذلت كل ما تستطيع من أجل إسقاط النظام السوري. وتوافقت مع الرؤية الأمريكية لكيفية حل الأزمة، ثم ما لبثت أن تحسنت بعد انتهاء فترة حكم حركة الاخوان، نتيجة تبني القيادة المصرية لمواقف أكثر اتزانا وحيادية من الأزمة السورية، وتقديم الرئيس عبد الفتاح السيسي رؤية تقوم على خمسة عناصر لحل الأزمة، تتمثل في البحث عن حل سلمي للأزمة، واحترام إرادة الشعب السوري، والحفاظ على وحدة الأراضي السورية، ونزع سلاح الجماعات المتطرفة، وإعادة إعمار سوريا وتفعيل مؤسسات الدولة(9). وتؤسس هذه الرؤية لإعادة الحياة للعلاقات السورية - المصرية، ويمكن معها البحث عن تصورات مشتركة لمواجهة التحولات في السياسة الأمريكية، التي تحمل في ثناياها، من الناحية العملية، ما هو في غير مصلحة البلدين.
 
رابعا - الاستجابة العربية والانتخابات الأمريكية:
 
تكمن أهمية البرامج والمواقف السياسية، التي أعلن عنها مرشحا الرئاسة الأمريكية، الجمهوري دونالد ترامب، والديموقراطية هيلاري كلينتون، فيما تحمله من دلالات على التوجهات الفكرية والسياسية للرئيس القادم، وعلى الطريقة التي يمكن أن يدير بها علاقة بلاده مع المنطقة العربية، مع الأخذ في الحسبان عدم قدرة المرشح على تطبيق برنامجه حرفيا بعد الفوز. بالنظر إلى ما تضمنه برنامج الديموقراطية كلينتون، وما صدر عنها من تصريحات، يمكن القول إنها غالبا ما ستستمر في تطبيق سياسات الإدارة الحالية، وهذا ما لا ينطبق على المرشح الجمهوري ترامب، الذي يتبني تصورا مختلفا لمعالجة قضايا المنطقة، سواء تعلق ذلك بكيفية التعامل مع الأزمة السورية، أو بالموقف من إيران، أو بكيفية محاربة "داعش"، وأهمها في العلاقة مع دول الخليج، وافتراضها محفظة مالية، غير قادرة على حماية نفسها، وحاجتها الملحة لحماية الولايات المتحدة لها، وضرورة تحمل التبعات المالية لذلك(10). وعلى الرغم من تصريحات ترامب الغريبة بعض الشيء، والمثيرة للجدل أحيانا، فإنها تضمنت عناصر مهمة، منها تأكيده أهمية وجود دول مستقرة في المنطقة، تكون شريكة ومتحالفة مع بلاده، مثل السعودية، ومصر، والأردن، وقطر، والإمارات.
 
أثار برنامج ترامب حفيظة دول الخليج. ورغم ندرة التصريحات الرسمية، وصعوبة الاستدلال على المواقف منها، يمكن رصد ردود الأفعال الخليجية، من خلال استعراض تعليقات بعض النخب، والإعلاميين، والمثقفين، الذين أكدوا أن فوز هيلاري كلينتون قد يكون الخيار الأفضل للعرب، وهذا ما طرحه جمال الذيباني، رئيس تحرير صحيفة عكاظ، وأكده أستاذ علم الاجتماع خالد الدخيل، والإعلامي عبد الله المحمود(11). أما المحلل السياسي على القحيص، فرأي أن ترامب يمتلك شخصية مصارع ثيران، وليس رئيسا، وأن دول الخليج لم ترد، لأن كلامه لا يستحق ذلك، فهي دول ذات سيادة، وليست شركات. وهذا ما أكده الكاتب أحمد إبراهيم، حيث رأي أن ترامب لا يملك ثقافة الإنسانية، ولا يعرف شيئا عن ثقافة، وحضارة، وتراث دول الخليج. وهذا ما عززته ردود أفعال الأمير الوليد بن طلال، الذي عدّ ترامب عارا على الولايات المتحدة، وطالبه بالانسحاب من سباق الرئاسة(12). وعلى كل حال، وأيا كانت نتائج الانتخابات الأمريكية، يبدو أن دول الخليج ستواجه معضلة حقيقية في التعامل مع السياسات الأمريكية الجديدة، وستكون مجبرة على تبني مواقف مختلفة، تبعا لأنماط الإدراك والاستجابة الموضحة أعلاه، كي تتمكن من الحفاظ على أمنها القومي، والاستمرار في البقاء.
 
يبدو الموقف المصري من رؤية مرشحي الرئاسة الأمريكية مختلفا إلى حد كبير عن الموقف الخليجي، حيث قد تعد القيادة المصرية فوز هيلاري كلينتون يمثل فرصة أكبر لمواصلة سياسة الإدارة الحالية. كما قد تخشي ألا تتمكن كلينتون من تبني تصورات مختلفة جوهريا في الأمد القريب لكيفية التعامل مع المنطقة. لكن القيادة المصرية تميل بالمثل إلى التروي في تعاملها مع رؤية ترامب لعلاقة بلاده بالمنطقة. رغم صدور بعض الإشارات المريحة من ترامب، خصوصا ما يتعلق منها بالموقف من حركة الإخوان، واتهامه لكلينتون بدعم الحركات الإسلامية المتطرفة، ولومه الشديد للإدارة الديمقراطية لتخليها عن نظام الحكم الحليف في مصر، وكذلك مطالبته بضرورة التحالف والشراكة مع دول مثل مصر، ودعم استقرارها، والبحث في سبل ترميم علاقة بلاده معها(13). ويمكن القول إنه وبالرغم من تفضيل القيادة المصرية للتعامل مع إدارة جمهورية، في ظل المواقف التي تبناها الجمهوريون، بعد ثورة 30 يونيو، فإنها تستطيع التمييز بين ما يقوله مرشحو انتخابات الرئاسة الأمريكية، في فترة الحملة الانتخابية، وما سيتبنونه من مواقف بعد ذلك. كما أنها تدرك الكيفية التي تصنع بها السياسة الأمريكية، وفقا لسياسات عامة، تبنيها مؤسسات الدولة، والقوي المؤثرة في الحياة العامة، رغم أهمية توجهات ورؤي الرئيس والحزب الذي يمثله. وهي لذلك، وإن تمنت فوز ترامب، تظل في حالة ترقب وصمت، انتظارا لما ستسفر عنه الانتخابات من نتائج.
 
خامسا - مستقبل العلاقات العربية-الأمريكية:
 
ينبغي الإقرار بصعوبة بلورة موقف عربي موحد تجاه ما ستكون عليه السياسة الخارجية الأمريكية، بعد الانتهاء من الانتخابات الأمريكية، في ظل غياب منظور موحد للتحديات التي تواجه الأمن القومي العربي، وتصاعد الخلافات بين الدول العربية. ولهذا، سيعتمد تقديم تصور حول مستقبل العلاقات على عنصرين أساسيين. يتمثل الأول في شرح مستقبل علاقة الولايات المتحدة مع السعودية ومصر، كل على حدة. أما الأمر الثاني والأخير، فيرتبط بتوقع استمرار التحولات في السياسة الخارجية الأمريكية على النحو الذي بدأت فيه، أي أنها سترتكز إلى العوامل نفسها التي قامت عليها، بغض النظر عن الحزب الذي سيفوز في الانتخابات، مع بعض التعديلات الطفيفة. فالتصور الأمريكي الجديد لما يجب أن تكون عليه المنطقة، والمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، سيفرض على الرئيس القادم استمرار الانخراط في قضايا المنطقة، تبعا للسياسات نفسها.
 
1- مستقبل العلاقات الخليجية - الأمريكية:
 
على الرغم من أن التحولات التي طرأت على السياسة الخارجية الأمريكية، واختلاف دورها في المنطقة، قد سمحت بتزايد نفوذ بعض القوي الدولية، مثل روسيا والصين، وعلى الرغم من توجه دول الخليج للتواصل مع هذه القوي، وتنويع شراكاتها الاستراتيجية، من أجل حماية مصالحها وأمنها القومي، فإنها لا تزال مقتنعة بضرورة الحفاظ على علاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، بصفتها الحليف الأكثر أهمية، ولذلك تسعي للقيام بخطوات من أجل ترميم العلاقة، والحفاظ على استمرارها. ويبدو أن الخلاف في وجهات النظر بين دول الخليج وروسيا الاتحادية حول العديد من الملفات، خاصة الأزمة السورية، قد أعاد العلاقات بين الطرفين إلى دائرة الشك وعدم الثقة، وأسهم في تعزيز اقتناعات دول الخليج بصعوبة فك ارتباطها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة.
 
من أجل إعادة العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة إلى سابق عهدها، يمكن أن تقوم دول الخليج ببعض الخطوات، التي قد تسهم في توثيق العلاقات، وتشارك المسؤولية، وتقاسم العبء في إدارة ملفات المنطقة، وأهمها التركيز على الوفاء بالالتزامات المتبادلة، وتنويع المصالح بين الطرفين، والاستثمار في جهد ردع إيران، ومنعها من فرض هيمتنها على المنطقة. وهذا لا يعني بالضرورة استبعاد فكرة التعاون الإقليمي، إذا ما استجابت إيران للاشتراطات اللازمة. أما بالنسبة لـ "داعش"، فيمكن أن تحاول دول الخليج إقناع الولايات المتحدة بوجهة نظرها في كيفية مكافحتها، والاتفاق المبدئي على خريطة طريق لمحاربتها.
 
2- مستقبل العلاقات المصرية -  الأمريكية:
 
أصيبت العلاقات المصرية الأمريكية ببعض التصدع، وشابها كثير من الشك، بعد المواقف التي اتخذتها الإدارة الأمريكية من الحراك الشعبي في مصر، وما تبعه من تحولات. وبالنظر إلى مضمون العلاقات، كما هي عليه الآن، يمكن القول إن كلا الطرفين قد فقد القدرة على بلورة فهم مشترك حول الكيفية التي يمكن أن تدار بها العلاقات بينهما. فمن جهتها، تضغط الإدارة الأمريكية، باستخدام ما لديها من أوراق، على القيادة المصرية كي تستجيب لمتطلبات المصلحة الأمريكية، والقيام بخطوات تطمينية حول عدم نيتها المضي قدما في سياستها الضارة بالترتيبات التي ترغبها في المنطقة. أما القيادة المصرية، فقد فقدت الثقة في النيات الأمريكية، ولم تعد قادرة على الاستمرار في التعامل مع الولايات المتحدة كحليف استراتيجي، ولهذا بدأت في اتخاذ مواقف تتوافق فقط مع المصلحة القومية المصرية، وتحمي ما تم تحقيقه من إنجازات سياسية على المستوي الداخلي.
 
يمكن القول إن العلاقات الأمريكية المصرية في إحدي أكثر مراحلها تراجعها، منذ مبادرة السلام التي قدمها الرئيس السادات، ومن غير المتوقع أن تشهد تحسنا حقيقيا على المدى القصير. وعلى العكس، قد تكون مرشحة لمزيد من السوء، في ظل استمرار التباين في وجهات النظر، وفي ظل التوجهات المصرية الجديدة. وتراهن الولايات المتحدة على عدم قدرة القيادة المصرية على الصمود والاستمرار في سياساتها المتعارضة مع المصالح الأمريكية. وتنطلق في مراهنتها هذه على فقدان الجيش المصري أهم مصادر تمويله اللازمة لصيانة وتحديث معداته، إلى الحد الذي يضعف من قدرته على مواجهة الأزمات. كما أن القيادة المصرية ستقف عاجزة عن مواجهة أزمات البلاد الاقتصادية، مع تفاقم التحديات، وضعف الاقتصاد، وتناقص احتياطي النقد الأجنبي، وانحسار عائدات السياحة، الأمر الذي سيحول دون قدرتها على التعافي والاستمرار في سياساتها، أو الاستغناء عن المساعدات الأمريكية. وسيقود هذا الوضع إلى ضعف الدولة، وبالتالي عدم قدرتها على مواجهة القوي الإرهابية، التي ستعمل على الاستفادة من حالة الضعف، وعدم الاستقرار. وستجد مصر نفسها مضطرة للرضوخ مرة أخري، والقبول بالتصورات الأمريكية الجديدة للمنطقة.
 
تمتلك الدولة المصرية العديد من الأوراق الرابحة، التي إذا ما أحسنت استخدامها وتوظيفها، فستستطيع إرباك الولايات المتحدة، ودفعها لمراجعة سياساتها. ويبدو واضحا من التخبط في بعض السياسات أن الولايات المتحدة لن تستطيع ملء الفراغ الذي قد يحدثه فك الارتباط الاستراتيجي مع مصر. فلا يمكن لعلاقتها مع إسرائيل، أو مع السعودية أن تؤهلها لتجاوز الأهمية الكبري التي تتمتع بها مصر في الإقليم، وهذا ما يمكنه أن يمهد الطريق أمام القيادة المصرية للّعب ببعض الأوراق. فقد اتجهت بالفعل لتقليص اعتمادها، من الناحية الاقتصادية، على برامج المساعدات الأمريكية، إضافة إلى العمل الجاد على تنويع مصادر التسلح. إلا أن موازنة التأثيرات الكبري للحضور الأمريكي في المنطقة تقتضي تجاوز ذلك إلى توسيع دائرة العلاقات الاستراتيجية مع الدول الكبري، وعدم المخاطرة بمجرد توظيف هذه العلاقات تكتيكيا، في إطار مساومة الولايات المتحدة على تحسين شروط عودة العلاقات. وفي إطار عملية فك الارتباط مع الولايات المتحدة، يمكن للقيادة المصرية أن تستثمر الضغوط التي تتعرض لها دول الخليج العربي، وشعورها بتخلي الولايات المتحدة عنها، وبالتهديد الذي تمثله السياسات الأمريكية على أمنها القومي، وذلك بأن تعمل مصر على بناء منظومة إقليمية، تكون فيها هي مركز التحالف، على أن يرتبط هذا التحالف بدول كبري، مثل روسيا الاتحادية والصين.
 
الهوامش:
 
1- ميشيل دن، استراتيجية أمريكية تجاه مصر في عهد السيسي، ملخص إطلالة سياسية، بيروت: مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، 2014، ص2.
 
2- تحليل سياسي، العلاقات العسكرية المصرية - الأمريكية واستقلالية المؤسسة العسكرية المصرية، القاهرة: المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، 2015، ص4:
 
- http://www.eipss-eg.org/Egyptian-American-military-relations/2/0/149
 
3- بادية حسين، السياسة الأمريكية تجاه صعود وسقوط حكم الإخوان المسلمين، رسالة ماجستير غير منشورة، رام الله: جامعة بيرزيت، 2015، ص92.
 
4- ميشيل دن، استراتيجية أمريكية تجاه مصر في عهد السيسي، مرجع سابق، ص ص4-5.
 
5- سامي السلامي، سياسة الحيرة: استجابة الدولة العربية للتحولات الهيكلية في الشرق الأوسط، موقع مجلة السياسة الدولية على شبكة الإنترنت:
 
- http://www.siyassa.org.eg/NewsContent
 
6- لقاء محمد بن سلمان ببوتين يثير ضجة في الغرب، موقع صحيفة سبق على شبكة الإنترنت:
 
- https://sabq.org/ojBgde
 
7- Nawaf Obeid, Saudi Arabia Is Emerging As the New Arab Superpower, The Telegraph, The Telegraph Site at the Internet, 05 May 2015, http://www.telegraph.co.uk/news/worldnews/middleeast/saudiarabia/11583598/Saudi-Arabia-is-emerging-as-the-new-Arab-superpower.html
 
8- Jubin Goodarzi, Iran and Syria, U.S. Institute of Peace Site at the Internet, http://iranprimer.usip.org/resource/iran-and-syria
 
9- السيسي يطرح رؤية من خمسة محددات لحل الأزمة السورية، موقع روسيا اليوم على شبكة الإنترنت:
 
- https://arabic.rt.com/news
 
10- أحمد سيد أحمد، قضايا الشرق الأوسط في سباق الانتخابات الأمريكية، موقع مجلة السياسة الدولية على شبكة الإنترنت:
 
- http://www.siyassa.org.eg/NewsContent/9820/110/3
 
11- خالد عبدالمنعم، بعد انتقادات ترامب للمملكة، السعوديون: كلينتون الخيار الأفضل، موقع صحيفة البديل على شبكة الإنترنت،
 
- http://elbadil.com/31/03/2016
 
12- تقرير مصور بعنوان "تصريحات ترامب تثير دول الخليج"، موقع روسيا اليوم على شبكة الإنترنت:
 
- https://arabic.rt.com/features
 
13- مستشار ترامب للشئون الخارجية: المرشح الجمهوري يسعي لترميم العلاقات مع مصر، موقع 60 دقيقة على شبكة الإنترنت:
 
- http://60minutese-eg.com/17/05/2016

رابط دائم: