أربعة مشاهد في الخطابات الغربية حول العرب والمسلمين
22-11-2016

فرحان صالح
*
1- ماذا بقي من عصر التنوير؟:
 
في كتابه روح التنوير، الصادر عن دار الفارابي، يحاول تزفتيان تودوروف رفع الالتباس الحاصل بين فكر التنوير والممارسات الاستعمارية، عادّا أن أفكار عصر التنوير أسهم في بلورتها، وصقلها، وتقديم خلاصاتها كل مفكري الحضارات السابقة.
 
 إن مكونات فكر التنوير غارقة في القدم، وإن كانت عملية تركيبها جديدة، إنها خلاصة الماضي المتعدد والمتنوع في خياراته وتوجهاته التاريخية، وليست نتاج عصر التنوير، بل إنها خلاصة أفكار مدارس فكرية لا تزال تتصارع إلى اليوم.
 
حمل مفكرو عصر التنوير توجهات كونية ومحلية، وكانت أفكارهم مشغوفة بالتاريخ، مثلما كانت مشغوفة بالخلود والتفاصيل، شغفها أيضا بالتجريد والطبيعة، وأيضا بالفن، والحرية، والمساواة.
 
اتسم عصر التنوير بالعقلانية والتجريدية، فرواد التنوير هم ورثة تشريعات حمورابي، وابن رشد، كما أنهم ورثة ديكارت، ولوك.
 
لقد حملت نظرياتهم رؤي تمجد الإله، كما حملت رؤي أخري تقول بموت الإله. وتساءل هذا وذاك منهم عن الأسس التي يمكن بناؤها لحياتنا الجديدة. لقد قررت البشرية أخذ مصيرها بيدها.
 
انطلاقا وتأسيسا من هذه الخلاصات التي أتي بها تزفتيان تودوروف، نري أن الفكر التنويري كان، كما أشرنا، خلاصة أفكار جاء بها المئات من المفكرين، والشعراء، والفنانين والفلاسفة من مختلف الحضارات، تلك الأفكار التي أصبحت مشاعا تنهل منها البشرية ما تشاء. لكن قيمة كتاب تودوروف أنه يسائل الفكر الغربي عن المسار المختلف الذي أسسه لذاته، وفي علاقاته مع العالم غير الأوروبي، خاصة أن هناك اتهامات موجهة لهذا الفكر بأنه المولد للأنظمة الشمولية، وللأيديولوجيات الاستعمارية، وبالأحري للنظام الرأسمالي العالمي.
 
إن تودوروف يحاول استبعاد تلك التهم، متسائلا: هل حقا أن للتنوير علاقة بالممارسات والأيديولوجيات الاستعمارية، والفاشية، والعنصرية، وبالتالي الإمبريالية؟ إنها المشاكل المستجدة عالميا التي أسهمت في بروزها التيارات السياسية المعاصرة، التي تمزق العالم اليوم. إنها الصراعات التي تتجسد في الواقع الحضاري العالمي المعاصر.
 
إن الذين يقولون بنهاية عصر التنوير، والتشكيك بالمفاهيم التي أتي بها مفكرو ذلك العصر، يخلطون بين ما دعا إليه مفكرو ذلك العصر، وما يدعو إليه مفكرو أوروبا والولايات المتحدة اليوم.
 
لقد تباينت المواقف السياسية والاجتماعية بين مصالح الشرق ومصالح الغرب، لكن أيضا بين مصالح الدول الغربية ذاتها. وهذا ما نراه في الاهتزازات التي يشهدها الموقع الحضاري الغربي ضمن أوروبا ذاتها، وبين أوروبا والولايات المتحدة. كما أن هذه الاهتزازات، التي يعتقد البعض أنها وليدة النظام الرأسمالي، هي ذاتها ما تعرفه دول الشرق في علاقاتها مع بعضها بعضا، وفي علاقاتها مع الغرب.
 
إن مفكري العصر الرأسمالي اليوم هم خونة عصر التنوير. فمفكرو التنوير كانوا قد دعوا للمساواة السياسية والاجتماعية بين الثقافات والأجناس. لقد تأسس عصر التنوير على ثلاثة أعمدة:
 
- الاستقلالية الفردية والجماعية للقوميات،
 
- والغائية، أي خدمة الخير العام لأفعالنا،
 
- والكونية الإنسانية.
 
لقد أقر عصر التنوير عدم خضوع الشعوب والأفراد للوصايات المفروضة عليهم من خارج إرادتهم، كما طالبوا الشعوب بالانقياد طوعا للقوانين والقيم الإنسانية، التي تجسد روح عصر التنوير، خاصة لجهة تحرير الإرادات الفردية من الوصايات القديمة. فالمرجعية هي الاحتكام إلي مركزية الأرض. إن البحث عن السعادة سيكون بديلا عن السعي إلى الخلاص اللاهوتي الديني، والماضي بشرائعه لم يعد يمثل تجسيدا لمثل عليا خالدة، لأنه مجموعة من العصور التاريخية المتعاقبة، لكل عصر فيها منطقه الداخلي، وقيمه الخاصة. إن المفاهيم، التي يتم تداولها بين مرحلة تاريخية وأخري، قد تباينت، خاصة لجهة سيادة القانون، وحكم الشعب، واحترام الحريات الفردية، والحقوق العالمية للإنسان.
 
هذه كلها جعل منها مفكرو عصر التنوير أمثلة عليا، أمثلة حملت معني احترام إنسانية الإنسان، وتحرير إرادته، إذ لم يعد من شيء أعلى من الإرادة العامة للشعوب. كما أعطت تلك الأمثلة الأولوية للتربية في جميع وجوهها، ودعت كي يصبح الكائن البشري مصدرا للتشريع. لقد دعا أولئك المفكرون إلى عالم دون أوهام، إلى عالم لم يعد فيه الناس يؤمنون بوجود أوهام. بجهد هؤلاء، تم فتح العالم على مصراعيه أمام ازدهار العقل، والعلم، والتقدم المعرفي.
 
لقد تم مدح المعرفة التي تحرر الكائنات البشرية من ضغط الوصايات الخارجية، لكن مفكري التنوير كانوا قد حذروا من القراءات، والدعوات الساذجة والمتفائلة، تلك الدعوات التي تعيد تكريس الأوهام.
 
لذا، حذر تودوروف من الإيمان بفكرة التقدم الآلي، ورأي أن كل أمل في التقدم الخطي وهم لا طائل من ورائه. وعلى الرغم من المحاذير التي أشار إليها المؤلف، فإنه آمن بأن البشرية بمستطاعها بلوغ مرحلة الرشد بفضل انتشار المعرفة، والثقافة، وسيادة العقل، رافضا تحكم سلطة الماضي في توجيه حياة الناس، ودعا إلى تقييم الشعوب بمقاييس الثقافة التي ينتمون إليها.
 
لقد عرف الغرب نمطين من أنماط التطور، أولا: الاختراعات التقنية التي أسهمت في المقاربة بين الشعوب، وفي الرفاه الإنساني، ثانيا: تشريع صناعة أسلحة الدمار الشامل. فالتقدم العلمي لم يهتم فقط بالجانب الإنساني،  بل كانت الأسلحة المدمرة، التي وظفت للسيطرة بأشكالها البربرية، مثلا: قنبلة هيروشيما، والتوظيف السلبي لعلوم الشيفرة الوراثية، كذلك غبار السيارات والسموم التي تطلقها الغازات، وغير ذلك من مساوئ.
 
مخاطر النظام الرأسمالي أو الحاجة إلى تجديد خطاب التنوير:
 
إن حاضرنا اليوم بعيد كل البعد عن أفكار عصر التنوير. فالحداثة ستصبح ممكنة في الحقبة التاريخية التي سيصبح فيها الكائن قابلا للتحول والتغيير. كما أن شعار التنوير لا ينتسب إلى الإلحاد، بل ينتسب إلى الدين الطبيعي، وإلى الإيمان بوجود عقيدة تؤمن بوجود الله، ولا تدعي احتكار فهمه. كما أنه ليس لأية سلطة أن تبقي في مأمن عن النقد. وللمعرفة مرجعيتها في العقل والحرية، وكلاهما بمتناول الجميع.
 
لقد خاضت البشرية حروبا متواصلة من الكفاح من أجل مساواة المرأة والرجل، وإلغاء عصر الرق، والعبودية، والنظام الإقطاعي، وتخوض اليوم حروبا ضد النظام الرأسمالي من أجل الاعتراف بكرامة الإنسان، سواء أكان فقيرا أم غنيا.
 
لقد انهار المنظوم الثوري الذي وضعت أسسه ثورة عصر التنوير، وأصبح المناضلون من أجل حرية بلادهم، بنظر النظام الرأسمالي،  إرهابيين، كما أصبح المناضلون من أجل المساواة، ومكافحة البطالة، والأمية والمرض، معادين للتقدم، وتجب مكافحتهم.
 
أكدت تلك الحالات المذكورة وجود التباس تعيشه البشرية بين مصطلحي اليمين واليسار. لقد برز تيار عنصري جارف، ليس في العالم العربي فحسب، بل برز هذا التيار في بلد المنشأ ذاته أيضا. فالسيدة لوبان، رئيسة الجبهة الوطنية في فرنسا، والسيد ترامب، المرشح لرئاسة الولايات المتحدة، يطالبان بطرد المسلمين من الغرب.
 
لقد انهارت المفاهيم الإنسانية برمتها، مثلا: انهيار مفهوم الليبرالية والتعددية، كذلك الإسلام التاريخي، فضلا عن انهيار الشيوعية. لقد برزت مجددا العنصرية، والفاشية (الحركة الصهيونية نموذجا).
 
واستنفدت القدرة، على الأقل مرحليا، على احتواء التحولات التي تنذر بحروب قد تؤدي إلى فناء مجتمعات إنسانية برمتها. يتبدي المثال ونحن نشاهد خطورة الممارسات التي يقوم بها النظام العالمي. فالرئيس الصيني دينج شياو بينج قام بإصلاحات صورية أدت إلى أن تصبح الصين جزءا من النظام الرأسمالي العالمي، بعدما كانت مرجعية، ومثالا، ورمزا لتحرير الشعوب. ترافق ذلك مع بروز الرأسمالية المتوحشة التي تمثلت بسياسات ريجان وتاتشر، وصعود اليمين الأوروبي، كذلك في الحرب السوفيتية في أفغاستان، ثم صعود الإسلام السياسي، وتسلم تنظيم طالبان للسلطة في أفغانستان، وبالتالي التمهيد لمرحلة جديدة من بروز الإسلام الراديكالي: "ولاية الفقيه" في إيران، و"الإخوان المسلمين" في مصر. وقبل هذا وذاك، بروز تنظيمات تقاتل الأنظمة بعقليتها الاستبدادية، تلك التنظيمات التي شكلت ردود أفعال على الأنظمة الاستبدادية التي تعيشها الشعوب العربية الإسلامية.
 
لقد قال عصر التنوير "إن من يعتقدون في مشاريع نهائية لا علاقة لهم بعصر التنوير"، بينما قال الرئيس الأمريكي الأسبق بوش: "من هو معنا، هو معنا، ومن هو ليس معنا، هو ضدنا". ما قاله بوش هو المثال الأبرز الذي سيشكل غطاء لأنظمة الاستبداد، وللنظام الصهيوني. كما أن هناك مثالا للتحولات الهمجية التي عرفتها البشرية خلال نصف القرن المنصرم، ومنها ما أشرنا إليه، وما تعيشه البشرية اليوم. لقد قال ميشال أونفري، المثقف الفرنسي المعروف: "إن حضارتنا تتبدد، كانت لنا أوروبا، بدأت في قسطنطينة، وبعد ذلك انهارت، واستفحلت العدمية. واليوم حضارتنا في نهاية السباق، إنها لا تنتج شيئا". ويضيف زميله مارك ويتزتان: "إن عصر التنوير لا يضئ شيئا ذا أهمية في العالم الكبير.
 
لذا، فإن الخلاصة التي توصل إليها كتاب "روح التنوير" هي الدعوة إلى إعادة تأسيس الأنوار، إعادة من شأنها أن تعيد قراءة إرث الماضي، لكن مع إخضاعه إلى مراجعة نقدية معاصرة، إذ لا سبيل أمامنا، كي نبقي أوفياء للتنوير، إلا بنقد النظام الرأسمالي، وصولا إلى بناء قيم إنسانية جديدة.
 
2- من عصر التنوير إلى العقد الاجتماعي:
 
يلاحظ المتابع للممارسات السياسية، التي يعرفها العالم العربي، الاختلال العميق الذي يتبدي في علاقة سلطة الحاكم بالشعب. فالحاكم، الذي يفترض أنه محكوم بالعقد الاجتماعي، بوصفه نظرية افتراضية، لا يلتزم بالعقد المكلف بموجبه تولي التمثيل المجتمعي، حيث وجود دستور ناظم، وبرلمان، ومؤسسات قانونية، وتشريعية، وعسكرية. إن العقد الاجتماعي هو الممر الإلزامي الذي بواسطته تتم إدارة العلاقة بين الحاكم ومن يمثلهم، أي الشعب، وهو من أسهمت في بلورته كعرف، ومارسته تقليدا وبالفطرة الشعوب القديمة، أي من أيام السومريين، والفراعنة، والفينيقيين، مرورا بزينون الرواقي، وأفلاطون، وصولا إلى ابن رشد الذي أصبحت كتبه تدرس في الجامعات الأوروبية، وتحديدا في جامعتي باريس ونادو الإيطالية. فهذه المسيرة، بتراكماتها الإنسانية الحضارية، هي التي مهدت لما جاء به جون لوك (1632-1704)، وروسو (1711-1778) في عصر التنوير. لقد تطورت وتراكمت تجارب الشعوب، فكان كل جيل يضيف إلى مفهوم العقد بحسب حاجاته، ومعارفه، ورؤيته لكيفية إدارة الحكم الصالح.
 
إن هذا التطور الطبيعي كان يقابله وجود أنظمة وتيارات سياسية عدمية، مستبدة لا تلتزم بأية تشريعات وقوانين، وبالتالي فإنها قد جمدت التشريعات، وشرّعت ما قد أسس لحكم الأنظمة الثيوقراطية الدينية - الاستبدادية - التي تدعي الحق الإلهي، وتتنكر للشأن المجتمعي، وقضايا الناس الدنيوية.
 
هذا الحاكم الذي عدّ إرادته في إدارة الحكم، إلهية لا بشرية، هو من وضع حواجز بينه وبين مواطنيه.
 
لكن مع الزمن، حصلت حروب هدفها تغيير هذه الأنظمة وتعديلها. وكانت مع هذه التجارب، تنضج الأفكار والممارسات التي لم يتوافر الشعور والإحساس بها في مجتمعات العصور القديمة. هذا الإحساس الذي توصلت إليه الشعوب المعاصرة لإعطاء معني للحرية، وللقيم الإنسانية من خارج المفاهيم الإلهية التي لا تزال تأخذ بها بعض الأنظمة المستبدة.
 
لقد أخذ الملوك بنظرية الحق الإلهي في السلطة، مما يعني أن ظلم الحاكم هو بسبب إرادة إلهية. لكن توما الإكويني كان أول من نقل فكرة الحق الإلهي من الملوك إلى الناس، عندما قال: إن المجتمعات البشرية تدار بعناية إلهية، لكن الله أعطي الرجال الإرادة والعقل، وهؤلاء هم الذين يختارون من يكون في السلطة. توافقت هذه التشريعات، التي أتي بها واضعو العقد الاجتماعي، مع وعي بعض رجال الدين المسيحيين ومصالحهم، فحملوا فكر التنوير، ورأوا أن الفردية في تناول الأديان غير مشرفة، وتزخر بالأنانية، وتسهم في انتشار التعصب والكراهية، فارتضوا فرض حدود على الحكم الملكي. وبموجب هذه الحدود- التشريعات التي ضمنت حقوقهم، بما فيها الحريات الدينية الكنسية، تم الفصل بين الحق الإلهي والحق الطبيعي: "ما لله لله، وما لقيصر لقيصر".
 
لقد رأي المصلحون من رجال الدين المسيحيين أن إخلال الملك بالعقد يؤذي الناس، ويؤدي إلى نزع سلطته. وبهذا، رأوا أن تجاوز العقد الطبيعي هو تعد على حق الناس، وبهذا انتقلت السلطة الإلهية إلى سلطة بشرية أرضية، تحمي أمنهم الفردي والجماعي. ولتحقيق هذا الهدف، فقد تعاقد الناس فيما بينهم على أن يتنازلوا عن جزء من حرياتهم، مقابل الأمن على الحياة، فحياتهم بحاجة إلى حاكم يقوم بهذه المهمة. لذا، فقد تنوعت النظرة إلى مهمات هذا الحاكم. فهوبز قال بالحكم المطلق، لكن لماذا؟ لأن الإنسان -حسب زعمه- ذئب لأخيه الإنسان، وأن السلطة هي القادرة على الفصل والحماية للفرد والمجتمع، عادّا أن السلطة هي جنة مطلقة. لكن لوك رفض فكرة الحكم المطلق: أن على البشر أن يثوروا ضد الحاكم الظالم. في حين رأي هيجل أن الدولة تجسيد لغاية الإنسان في الحرية. وأضاف إلى ذلك روسو أن الإرادة العامة تكمن في الحرية والمساواة بين الأفراد، فالطبيعة الإنسانية تفترض خيرا في كل الناس، لكن السلطة هي من تفسد المجتمع.
 
انطلاقا من مقولات روسو، التي كانت المرجعية الأساسية للفكر الماركسي، انبثقت الفكرة التي قال بها المنظرون الماركسيون الذين رأوا أن الدولة هي بناء فوقي يقوم على خدمة طبقة اجتماعية معينة، مدارة من سلطة تقمع باقي الطبقات، ورأي ماركس أن الدولة ستزول بعد زوال الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، كما ستزول حالة الصراع الطبقي.
 
أعطت التشريعات التي أقر بها جون لوك، وهيوم، وروسو قيمة كبري للنفس البشرية، وأسهمت في تجديد العلاقات الإنسانية، كما فتحت الأبواب لحرية الضمير، والمناداة بالمساواة، والحرية، وحكم القانون، والحقوق الفردية. وكانت تشريعات لوك حول الحق الطبيعي، بمنزلة الفصل بين السلطة الإلهية والسلطة السياسية. لقد أعطت مدلولاتها العملية عام 1689 حينما خلع الملك عبر البرلمان الإنجليزي (لقد تنازل الملك ولم تذكر كلمة خلع)، وتبع ذلك تعيين الملك والملكة (وليام وماري) يحكمان معا بواسطة البرلمان، وأصبح الملك يضع نصب عينيه تنفيذ العقد الاجتماعي. فالعقد أشار إلى منشئ الأمانة والمستفيد منها. لقد أصبح في بريطانيا سلطة ترتبط بالمعاهدات والاتفاقات، سلطة تسمح بعزل من لا يحترم الإرادة الشعبية، سلطة تؤمن بأن للحكومة واجبات، وليس لها حقوق في مواجهة المستفيد - الشعب. إن قبول العقد هو قبول اندماجي، والشعب المندمج هو الذي يلغي الأمانة إلزاميا (الحكومة هي الأمين، والمجتمع منشئ الأمانة). لقد نصت تلك العقود على تشريعات ملزمة بدعم الحقوق الطبيعية للشعب. فالسيادة الدائمة للشعب، ومصالحه لها الهدف النهائي في سياسات الحاكم.
 
أسست ثورة 1689 في بريطانيا مرحلة جديدة، امتدت مفاعيلها إلى الولايات المتحدة التي تبنت العقد الاجتماعي البريطاني، وإن جاء ذلك في وقت متأخر، أي عام .1776
 
أعطي الحق الطبيعي للسيادة معني جديدا. فبموجبه، حصل الناس على حقوق طبيعية، كما أنه أسهم في إشاعة جو من الأفكار يتلاءم مع الوجهة التعاقدية، التي أصبحت المرجعية للعقود كافة. كما أسهمت شرعنة العقد الاجتماعي في إعطاء القيمة القصوي لحقوق الأقليات. العقد يفترض أن الدولة قوة تقدمية ترفع الإنسان إلى مستوي اجتماعي أعلى. إن عصر الدولة الأبوية قد انتهي، إذ لم يعد للحاكم الظالم الحق في الاستئثار بالسلطة. المجتمع هو ذاته مصدر السيادة بوصفه دولة.
 
إن عصر التنوير لم يكن عصر سيادة الحق الطبيعي فحسب، وإنما عصر سيادة العقد الاجتماعي أيضا، والذي عدّه هيوم قانون الشعوب. كما أكد العقد في مضامينه وجود جماعة مترابطة، وحاكم يكون على استعداد لتحمل المسئولية. فالدولة هي، الجماعة السياسية، وهي، بشكل أوضح، مختصر الأمة في ذاتها. إن المجتمع المنظم يقوم على احترام العقد الاجتماعي، كما أن السلطة منبثقة عنه. فالعقد يرسم مبررات الدستور، ويمهد لتنظيم سائر السلطات. وبموجب هذا العقد، تتبلور الآليات التنفيذية المتمثلة بالسلطات التنفيذية، والتشريعية، والقضائية (وهذا ما أوحي به لوك). والدولة أيضا، بموجب هذا التشريع، هي فوق الوصايات والرعايات، وهي الممثلة الشرعية التي ترسم الإطار السياسي، والاجتماعي، والتربوي، بدل الإطار الديني.
 
تبلورت فكرة الحق الطبيعي في خضم الصراعات الدينية، حيث استخدمتها الأقليات الدينية في صراعاتها مع الأغلبية الدينية أو القومية. وبذلك، فقد أكدت هذه الأقليات حقوقها في مواجهة فكرة سيطرة الأغلبية. ومن قلب هذه الصراعات والمعاناة، تم فرض عقد الحكم، وعقد المجتمع، إذ برزت جماعة من الأحرار مترابطة فعلا بفضل إرادة اجتماعية مشتركة، أو بفضل حاكم على استعداد لتحمل أعباء الحكم، والانسجام مع الإرادة الحرة.
 
قال لوك: إن غرض العقد الاجتماعي تحديد الحقوق للأطراف المتعاقدة، وهم المواطنون من جهة، والحاكم من جهة أخري. إذا أخل أحد الطرفين بالشروط الواردة في العقد، فإنه يحق للطرف الثاني أن يعده ملغي. إن العقد هو في مصلحة المواطنين لضمان حقوقهم وحرياتهم. لقد قام العقد على أن المؤسسات المجتمعية هي الإطار الحاضن والمنظم للعلاقة بين الدولة والمجتمع، كما أكد لوك، وهو من أهم المفكرين إسهاما في تكوين النظرية السياسية المدنية، والقائل بسيادة الحق الطبيعي، وكانت مرجعيته تعليمات المعلمين الرواقيين (تلامذة زينون). ورأي أن هناك قانونا طبيعيا متأصل الجذور في طبيعة الإنسان العاقلة، وأن هناك حقوقا طبيعية وجدت بفضل هذا القانون. لقد خلفت الثورات الاجتماعية والسياسية وعيا ونضوجا في إنشاء جسد اجتماعي معنوي، يضم أفراد المجتمع الذين تقابلت أفكارهم وإراداتهم على قبول العقد، والتزام مضامينه القانونية، خصوصا أن هذا العقد تضمن إنشاء أجهزة ومؤسسات لإدارة شئون المجتمع، التي منها تنبثق الإرادة السياسية.
 
نصت العقود الاجتماعية على أن الحاكم الظالم، الذي لا يحترم العقد المبرم بينه وبين المجتمع، لا يستحق الاحترام. والسبب الموجب لهذا الموقف هو أن وجوده في السلطة لا يسهم في الحوار والاندماج المجتمعيين. كما أن وجوده لا يعزز العلاقة المرعية بين السلطة والمجتمع. وبهذا، فقد عُدّت القوة في هذه الحالة اغتصابا للسلطة. وجون لوك هو من رأي أن القوة العليا هي للشعب، تقابلها القوة التي يمثلها الحاكم، أي السلطة بمعناها المؤقت.
 
إن قوة الدولة، بموجب العقد، منبثقة ومعبرة عمن تمثلهم، وليست من ذاتها، أو يمكن تحويرها لخدمة الحاكم ضد من أوكلوه. إن أساس العقد -حسبما يورد روسو- هو الاعتراف بالخير العام للمجتمع وتطوره. فالسيادة هي الإرادة العامة، والقانون هو التعبير عن هذه الإرادة يكون للجميع، ومن بين هذه الحقوق المساواة بين الأفراد، فهم يولدون أحرارا. أما التفاوت والعبودية، فنشآ عن الدولة التي تقوم لخدمة طبقة اجتماعية، وتقمع باقي الطبقات، فالحقوق الطبيعية هي للجميع.
 
هذه الأفكار هي التي افتتح بها لوك، وهيوم، وروسو عصرا جديدا في التطور نحو الديموقراطية، ونظرية الحقوق الفردية، والحكم الدستوري.
 
تطور الحق الطبيعي إلى عقد اجتماعي (محاولات إضاءة):
 
إذا كانت المعرفة جزءا من حياة الشعوب، فإن ما نتابعه من كتابات، تناولت تاريخ الحق الإلهي وتطوره إلى حق طبيعي، نراها تتجاهل تجارب الحضارتين الهيروغليفية الفرعونية، والسومرية المشرقية، وما تبعها من أنظمة شرعت وحكمت في ذلك التاريخ المبكر. كما أن القوانين الرومانية لم تكن مرجعيتها إلا هاتين الحضارتين اللتين يمكن عدّهما المبتدأ والخبر في عمليات التشريع التي أتت بها الشعوب والأديان القديمة.
 
أما ما قدمه هيوم، ولوك، وروسو في عصر التنوير، لناحية فصل الدين عن الدولة، والمناداة بالحق الطبيعي، فقد نادي به ابن رشد من قبل، وتبناه الطهطاوي. إلا أننا نعترف بأن خصوصيات المجتمعات الغربية، وطابعها التاريخي المختلف أسهما مبكرا في إنضاج تلك الأفكار، وتحويلها إلى واقع، وهذا ما لم يحصل في الشرق. وقد يكون سبب التأخر في تحويلها إلى  واقع معيش، ضمن بيئات مجتمعاتنا العربية، الاحتلال، والممارسات الاستعمارية الغربية ذاتها، إضافة وتأسيسا على عوامل ورواسب داخلية عربية - إسلامية كانت تحول دون تحقيق هذا الهدف، على الرغم من أحلام مفكري عصر النهضة، ومطالبهم بالأخذ بالعقد الاجتماعي والتزامه. لذا، فإن تاريخ العقد الاجتماعي بحاجة إلى إعادة النظر فيه، وإعادة صياغته من خارج القوانين والثقافات التي يروج لها النظام الرأسمالي.
 
إن مقاربة جون لوك بين تشريعات توما الإكويني (1250)، وما سبقها من تشريعات (أشرنا إليها)، لم تكن سوي خلاصة إنجازات فكرية وعملية لحضارتي آسيا وإفريقيا وعلاقتهما بالعالم القديم. كما أن مرجعية مبادئ القانون الروماني، كما ورد عند هيوم، كانت مستمدة مما شرَّعت له هاتان الحضارتان، وهو من يشير إلى ذلك. لقد دعا لوك، بغير وجه حق، إلى أن الإكويني هو أول الأحرار، والسبب في ذلك من أن كتاباته لاءمت، وفي مرحلة معينة، ظروف المجتمع الإقطاعي الغربي الذي تحول من نظام استبدادي إلى تعاقدي (الإخلاص للعمل مقابل إلتزام الأعمال التي يطلب الإقطاعي من العاملين عنده تنفيذها)، علما بأن الملك الإقطاعي أُجبر على أن يدخل في تعاقد ضمني مع سادة الإقطاع التابعين له.
 
هذا ما كانت عليه قوانين المجتمع الروماني، وقد تمثلت فيها، من وجهة نظر لوك، المقدمات الأولي للعقد الاجتماعي، وهي تنص على أن ما يرضي الحاكم له قوة القانون، والشعب يمنح الحاكم، ويضع بين يديه كل ما له من سلطة بمقتضي قانون تنصيبه، وأن سلطة الحاكم ليست مطلقة، بل مقيدة بالقانون. وبموجب ذلك، يميز القانون (في العديد من بنوده) بين الملكية الدستورية، والملكية غير الدستورية. فأوغسطين المغاربي (وهو من سوق أهراس) ميز بين ثلاثة أضلاع للسلطة: فكرة مبدئها، وفكرة أسلوبها، وفكرة ممارساتها. فإذا كان المبدأ من الله، فإن الأساليب المتبعة لممارسة السلطة هي أساليب بشرية، والشعب هو من يرسم صورة الدستور، ويحدد صلاحيات الملك.
 
على هذا النحو، تعد ممارسة السلطة، والتمتع بها خيارات بشرية، وللشعب الحق في سحبها من الحاكم. لقد رأي أوغسطين وغيره، ممن أسسوا أو أسهموا في الإصلاح التشريعي، أن الشعوب كانت تتصرف قبل سن التشريعات، حسب أعراف تربت عليها، وحفظت ما تربت عليه، وطورته استقرارا بشريا، كان يطول أو يقصر بحسب الأنظمة الحاكمة. كما أن بعض الشعوب لا تزال تعرف التقاليد المتوارثة وتمارسها، ولاسيما تلك التي حملتها كأعراف أبا عن جد، أي على أساس تشريعات شبه تعاقدية. ولا تزال التوريثات الملكية (وحتي في بعض الأنظمة الجمهورية الشكلية، الاستبدادية) تتعامل مع شعوبها على أساس هذه التقاليد.
 
إن تلك التشريعات التي يعطيها بعض الفقهاء مسحة دينية (فقهية، ولاهوتية) يلاحظ أنها تعود إلى الأعراف القديمة. بينما يسجل أن العقد، الذي أتي به لوك، وهيوم، وروسو في الغرب، قد تحول إلى معطي ثابت في علاقة الحاكم بالمحكوم. ومن أسباب هذا الثبات أن إقراره قد ترافق مع انتشار التعليم، وتوسيع دائرة المؤثرات التربوية والعلمية، وهذا ما ساعد على تحول البلدان التي أخذت بالعقد إلى دول حضرية  مدنية، بمعني الانفصال عن التراث الريفي ذي الرواسب الثقافية الإقطاعية، والذي لا تزال الثقافات الدينية متجذرة في بنيانه الاجتماعي، فبقيت الأمية، والتقاليد الثقافية، والدينية والأعراف منتشرة. استغل الغرب هذا الخلل الذي أسهم فيه، وبدأ يرسم عن بعد، ويحدد المستويات الاجتماعية، والاقتصادية، والتربوية للشعوب التابعة ليتحكم في حاضرها ومستقبلها. ففي هذه الأنظمة، استمرت التشريعات، والأعراف، وظلت الأمية المعرفية قائمة وفاعلة، وإن كان النظام العربي الإسلامي قد عرف بعض ما يسمي بالتحديث، لكن هذا التحديث كان يسخَّر لخدمة سياسات الغرب في نشر الثقافات الاستهلاكية، وبالتالي توسيع نفوذه، وسيطرته على حساب أية سياسات تنموية منتجة.
 
في خلاصة هذا القسم من البحث: إن الناس يريدون الخير دائما من تلقاء أنفسهم، لكنهم لا يدركونه دائما من تلقاء أنفسهم (روسو). وعندما نحاول العودة إلى البدايات، التي تأسست منها الأفكار العملية التي أخذت الدول الغربية بتطبيقها، نجد أن العقد أصبح ناظما قانونيا عالميا لعلاقة المجتمع بالحكم، ونري من بعيد، كم أننا، نحن العرب، بعيدون عما تم التأسيس له، والعمل بموجبه منذ أربعمئة عام، ونتساءل: كيف تصور مفكرو عصر التنوير العالم؟ وكيف يمارس النظام العالمي سياساته الدولية، خاصة تجاه العالمين العربي والإسلامي؟
 
لقد نشبت في بلدان عربية عديدة ثورات تطالب بإسقاط الأنظمة، وتغيير الحكام، والحرية، والديمقراطية، لكن هذه الثورات، التي غاب عنها اليسار في فترات لاحقة من بدئها، غاب عن المحركين لها أنها صراع اجتماعي - طبقي، كما افتقدت للشعارات القومية قضيتي الوحدة، وفلسطين. يقول على نسر في جريدة السفير (19 مارس 2016): "إن الأنظمة التي طالبوا بإسقاطها تحوي في دساتيرها خليطا من الأيديولوجيات". لقد أخذت عن الرأسمالية تجويع الآخر واستغلاله، وإقصاء المعارضين، وأخذت من الماركسية الرقابة على حركة المواطن، ومنعه من حرية التعبير، إضافة لإبقائها على جو التواصل مع الحركات الأصولية.
 
3- الخطاب الغربي .. تجديد للتمايز والسيطرة:
 
خطاب الكراهية:
 
هل الخطاب الإسلامي الذي تجمد، واستنفدت مفاعيله الإيجابية، حسبما يري البعض، هو ذاته الذي يستقي تراجعه وجموده السلبيين من مؤثرات وأيديولوجيات النظام الرأسمالي العالمي؟
 
في المقابل، هل استنفد النظام الاستعماري، الذي كان مهيمنا عسكريا وسياسيا على العالمين العربي والإسلامي، أغراضه بعد انسحابه، تاركا الحرية للشعوب التي كان يستعمرها، كي تقرر مصيرها بذاتها، من دون تدخل منه، أو أنه، قبل انسحابه، رسم مخططات له للسيطرة عن بعد، عبر أساليب يستطيع من خلالها التحكم بمصير البلدان التي انسحب منها، مستعينا بالنخب التي أدارت السلطة في البلدان التي تركها، والتي تواطأت معه لتدجين الشعوب واستيعابها، وبالتالي تجديد هيمنته؟
 
هذه الأسئلة هي ما أجاب عليها بوبي س سيد في كتابه المهم "الخوف الأصولي: المركزية الأوروبية وبروز الإسلام". ففي كتابه هذا، يناقش سيد كتابات المستشرقين الغربيين حول السياسات التي اتبعتها بلدانهم في علاقاتها مع سكان المستعمرات التي كانوا يسيطرون عليها. ويميز الكاتب بين الكيفية التي رسم فيها بعض المستشرقين صورة الإسلام، ومستشرقين آخرين تبنوا مواقف إنسانية إيجابية.
 
هناك كتابات كان هدف أصحابها تجديد الهيمنة الغربية، من خلال رسم صور نمطية للعقلية العربية - الإسلامية، تبرز أن الشعوب ليس في مقدورها العملي والسلوكي أن تسهم في التطور الذاتي الخاص بمجتمعاتها، وبالتالي ليست قادرة على المشاركة في تطور الحضارة الإنسانية. لذا، فإن مصير العرب والمسلمين، برأي هؤلاء المستشرقين، سيبقي تحت السيطرة الغربية. لقد علمنا التاريخ أن الغرب المخلص، والمهيمن، هو من يخفي خداعا، لأنه لا يفعل ما يقول.
 
والسؤال: ما معني القيم الديمقراطية، إذا كانت المصالح الغربية هي التي تحرك مباشرة سياسات الدول التي كانت خاضعة؟ وماذا ستنتج الديمقراطية الموهومة في مواجهة لا الأنظمة المستبدة فحسب، وإنما سياسات العولمة؟ لقد غلّبت العوامل الاقتصادية للغرب أي ادعاء آخر يعمل الغربيون بموجبه، مما أدي إلى أن تتحول المعتقدات الدينية لخدمة المشاريع الغربية، كما يقول جون ألستون في كتابه المهم "انهيار العولمة وإعادة اختراع العالم". فالعوامل الاقتصادية هي المحرك الوحيد لمسيرة التاريخ. لقد أضفي الغرب على أيديولوجيته مسحة من التدين، مستقاة في ظاهرها من الوحي الديني. وليس بعيدا ما نشير إليه عن مقولات بوش الأب، والابن أيضا، وما تذرعا به لإشعال نار الحروب، بادعاء استلهام الأقدار والمشيئة الإلهية. وفي هذا، يقول حامد عمار: "لقد غدت أيديولوجية العولمة حقيقة اقتصادية، كما غدت أيضا حقيقة دينية لا تراجع عنها".
 
وهكذا، بعد مرور نحو مئتي عام من السيطرة الغربية، أخذت الأوضاع الأوروبية تضطرب. وها هي الولايات المتحدة تنعي الحضارة الأوروبية، واصفة إياها بالإمبراطورية الهرمة، وها هو البديل الأمريكي يحاول صياغة عالم جديد، مع القليل من الزخرفات الأوروبية.
 
لقد ورثت الولايات المتحدة التراث القديم بشقيه: الإقطاعي العثماني- الإسلامي، والاستعماري الإمبراطوري  الإنجليزي/ الفرنسي. لكن الولايات المتحدة، التي ورثت هذه الثروة التراثية، بما فيها من قيم إنسانية، ومن قيم استعمارية، ها هي تتعثر اليوم، وتترنح بعد وراثتها لتراث الاتحاد السوفيتي، واستعصاء إمكانية التأثير الفعلي في الاقتصاد الصيني. لقد حاولت الولايات المتحدة تدجين هذا التراث أو ذاك، كي يصبح مطواعا وتابعا، لكن عبثا تحاول، على الرغم من أن الروس، الذين يحاولون إحياء تراثهم القومي، يواجهون بمقاومة غير متوقعة قد تفسد مقاصد بوتين.
 
إن أوروبا تعاني بيروقراطية أدت إلى تحول الديمقراطية إلى ظاهرة شكلية، كما تعاني عزلة أدت إلى ظهور تنظيمات فاشية تجلت في مظاهر شعبوية، وقد انتشرت في العديد من دولها.
 
وهناك صراعات ظاهرة للعيان بين الولايات المتحدة من جهة، والصين وروسيا من جهة أخري، وهناك منافسة قد تتحول أحيانا إلى صراع سلبي بين أمريكا وأوروبا. هذه الصراعات والمنافسات قد ترسي سياسة عالمية جديدة قائمة على تعددية مراكز الاستقطاب العالمية. إن هذه المنافسات والصراعات، التي يرسم صورتها النظام العالمي الجديد داخل آلياته، تعبر عن حاجة النظام الرأسمالي ذاته لبروز عدو، وهذا العدو هو العالمان العربي والإسلامي، الذي تتصارع جميع الأطراف على تقاسمه، والسيطرة بالحد الأدني، على أقسام منه، خصوصا على مقدراته.
 
إن هذه الصراعات التي يحاول كل من الأطراف المتصارعة فيها الاستحواذ على جزء من الغنيمة - الضحية، أو الضحايا، هي المولدة للأيديولوجية التي سماها البعض: الإسلاموفوبيا. ولتدعيم المصطلح، والعمل على تأكيده في الصراعات، وآخرها مكافحة الإرهاب، تحاول الأطراف المشاركة في تقاسم الضحية إحياء "الماقبلية"، والغرائزية، والصراعات الإثنية والطائفية، خاصة بين السنة والشيعة. إنها الأدوات التي يعتقدون أنها الأنجع في الاستحواذ على العالم الإسلامي، وتوزيع جسده حصصا. إن التناقضات التي يتم استغلالها في العالمين العربي والإسلامي هي التي أعطت معني للإسلاموفوبيا كأيديولوجية مشتتة (الصهيونية واستغلالها للديانة اليهودية، والسلفية وانغلاقها على التراث الديني للعصور الوسطي، وولاية الفقيه المرآة التاريخية للصراعات السنية - الشيعية، والإخوان المسلمون الذين يعتقدون بإمكانية إحياء الخلافة الإسلامية على ما كانت عليه في العصر الإسلامي الأول).
 
لذا، فإن الإسلاموفوبيا، وكعقدة، هي الأخطر التي يحاول النظام الرأسمالي تعزيزها واستمرارها، معتمدا على هذا النظام العربي والإسلامي، أو ذاك من أنظمة لها سياسات تقليدية معروفة، هي التي أعادت المكانة إلى الرواسب الماقبلية في عمليات التفتيت التي نشاهدها اليوم. فالإسلاموفوبيا، بما هي العقدة الأخطر للولايات المتحدة، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، هي لحظة داخلية في مشروع الشرق الأوسط. هي كذلك، لأن المصالح الغربية تحاول عبرها إحياء الظواهر التقليدية السياسية السابقة على الحداثة، ويا للغرابة. ورغم تقليديتها، فإن عقول الغرب والولايات المتحدة، فضلا عن روسيا، تتعامل معها على أنها إبطال لمركزية الغرب، أي أنها تقوم على التشكيك في النظريات التجريبية الكبري.
 
فهل الأيديولوجيات الإسلامية، وما تمارسه على الأرض العربية والإسلامية، تقدم فعلا انتقادات مقنعة ضد الحجج الغربية، انتقادات تستطيع عبرها التأسيس لمجابهة الخطاب الغربي وتفكيكه، خاصة أن حضور الأيديولوجيات الاستعمارية القديمة بنظر الإسلام لم يعد ذا ضرورة، مع أن الغرب يحاول إعادة المكانة إليها؟ وهو هنا يستعمل سياسته التقليدية القديمة لإحياء إرث سايكس-بيكو معدلا.
 
إن المشروع الغربي هو مشروع الحروب الدائمة، بل هو مشروع عدائي تدميري، وهو ما قد يؤدي إلى حروب قد تطول. وما شعار مكافحة الإرهاب سوي العنوان الأبرز لهذه العدائية. إنه الشعار العدواني النقيض لما تطالب به الشعوب (مكافحة البطالة، ومكافحة الأمية، ومكافحة المرض، وتحقيق العدالة الاجتماعية). نشير إلى ذلك ونحن نعرف أن المسلمين موجودون في كل مكان. إن قيمة القوة الحقيقية أن تكون عقلانية وغير مرئية. فالقوة في ذاتها مجرد طريقة لتطوير ورقي البشرية. القوة، بعدّها جزءا من مشروع سياسي - ثقافي، قد تجد شرعية لها في تعميم ثقافة إنسانية. إن التثقيف الاجتماعي، والتربية العلمية والعملية يقللان إلى الحد الأدني الحاجة إلى استخدام القوة. وعلى ذلك، هل يمكن قراءة الحرب الدائرة اليوم في دول العالمين العربي والإسلامي كاعتراف بفشل السيطرة الأمريكية - الغربية عالميا، خاصة أن الولايات المتحدة ذاتها قد فشلت في تشريع احتلالها العراق، وأفغانستان؟
 
إن الأصولية الإسلامية إنما ينظر إليها على أنها تشكل تهديدا للنظام العالمي، وما تمارسه هذه الأصولية هو المبرر لدي الغربيين، وأمريكا تحديدا، لطرح شعار مكافحة الإرهاب، ولاستعمال العنف، ولتأديب من يعادي الولايات المتحدة، أو يطالب بتحجيم هيمنتها. لكن بوبي -سي سيد، السابق الإشارة إليه- يري أن الحملة الصليبية المعاصرة على الإسلام قد فشلت، وفشلت معها القيم الثقافية الغربية في تنصيب نفسها كمسئولة عن العالم.
 
لذا، كانت هناك، وكما ذكرنا، قوي محلية تعمل بموازين وعقليات موروثة للحفاظ على الإرث القديم، وذلك لمواجهة الحلف الأمريكي -الأوروبي (الروسي) الذي يعمل لتقسيم جديد للشرق الأوسط، ولإعادة العالم إلى الانتظام ضمن موازين قوي إقليمية ودولية جديدة. هذه الأيديولوجيا أصبح لها منظرون ودعاة، وأقنية إعلامية في أمريكا وأوروبا، والعالمين العربي والإسلامي أيضا.
 
أعطي النظام الرأسمالي الأنظمة الاستبدادية جرعة حياة جديدة، وكان ذلك برعاية غربية، خاصة أمريكية. هذه الأنظمة الاستبدادية هي ما يوظفها الغرب، أو ما تبقي من شرعية له، لمكافحة الإرهاب. وإذا فشل هذا المشروع، فسيصار إلى تقسيم هذه الدول، وهذا ما يحصل في كل من سوريا، والعراق، وليبيا.
 
فهل يمكن للنظام الرأسمالي الإسهام، كما يدعي، في رأب الصدع بين الأنظمة الاستبدادية والشعوب؟ هل بهذه السياسة، وبما ترتبه السياسات الغربية، يمكن ردم الهوة بين العالمين العربي والغربي؟ وهل المنظمات الإسلامية التي تستغل الإسلام، وتدعي حمايته، تعمل وفق مبادئه الأساسية في الرحمة والتسامح؟ أليس الاستعمار الغربي، الراعي والمتحالف مع العديد من التيارات الجهادية والسلفية، هو الشريك في قتال الشعوب، سواء في سوريا، أو في سائر البلدان الإسلامية؟ أليس الإسلام في ذاته يحمل في مضامين دعواه وفتاواه كل هذه التناقضات التي لا يمكن إحصاؤها، والتي تبرر لهذا التيار الجهادي، أو ذاك، ما يقوم به؟
 
إن الصراعات هي صراعات سياسية واجتماعية بين قوميات، وإثنيات، وطوائف، ومذاهب، وعقائد، وهي تعبير عن خصوصيات أسهم الاستعمار ذاته في تكوينها، أو في المحافظة عليها، مثلما أسهمت الأنظمة المتحالفة مع الغرب في ذلك. وعلينا أن ندرك أن الشيعة، مثلهم مثل السنة، هم فرق إسلامية متعددة ومتنوعة في خياراتها، وكلاهما لا يعبران في تنوعهما عن التجانس أو الوحدة، كما يدعي ويحلم البعض. إن رفض الشيعة للسنة، أو العكس، هو إعادة تأكيد من هذا لذاك برفض الخصوصية التي يتمتع بها كل منهما، وهي بذاتها، سواء مع هذا الطرف أو ذاك، بمنزلة عدم الاعتراف بالآخر، وبالتالي عدم الاعتراف بهويته التي يناضل عبثا لتأكيدها. لكن هذا الشيعي، أو ذاك السني، لا يمكن أن يمنعا "الجماعوية" الدينية التي تقول بإسلام واحد، "الجماعوية" التي تنادي بالوحدة التي تتبدي بطرق وأساليب سياسية ليس لها علاقة بالدين، وإن كان هذا أو ذاك يحاولان إلباسها جلبابا دينيا، أو ثقافة من تراث ديني تخرقه الصراعات الاجتماعية والسياسية في العمق، بل وتتجذر في أحشائه كل التناقضات التي يحاول هذا أو ذاك استغلالها. لذا، هل يمكن تحويل الصراع السني - الشيعي من شكله الديني إلى شكل جديد، مبني على معارضة وموالاة، وهي الطرق الحديثة في إدارة المنافسات السياسية؟
 
إن الأيديولوجيات الدينية اليوم لا يصنعها السني ولا الشيعي، إنما كلاهما يوظفان لتحقيق مشاريع ليس لهما علاقة أو مصلحة فيها. إن الإسلام اليوم تصنعه وتستغله المصالح المتداخلة للنظام الرأسمالي العالمي، خاصة أن العلاقة بين الخاص الثقافي السني، والخاص الثقافي الشيعي تاريخيا هي خاصيات توظف وتستغل سياسيا، وهي خاصيات موهومة وملتبسة، ومن دون أفق. فالعولمة اليوم هي التي تنشر ثقافتها في مواجهة خصومها، مستغلة تلك الخصوصيات، سواء كانت ذات شرعيات دينية، أو مدنية. فبالنسبة إلى الغرب، ليس من شيء خارج الاستغلال، الغرب لا حدود لمطامعه.
 
إن العولمة حينما لا تتمكن من استيعاب خصومها، فإنها تشغل ماكينتها الأيديولوجية والعسكرية، وبالتالي تعمل على إحياء الغرائز القديمة، وإحياء المكبوت، وخلق المناخات والمبررات (بالتعاون مع قوي دينية إسلامية، أو يهودية، أو مسيحية) لتفجير المنطقة، وإعادة الهيمنة من جديد. والمثال واضح في فلسطين، ولبنان، والسودان، والعراق، وسوريا، وأفغانستان، واليمن، وليبيا، وغيرها من الدول. وبهذا، ليس ضروريا أن تكون سنيا، أو شيعيا، أو يهوديا، أو ملحدا، بل المهم مدي طواعيتك لهذه المشاريع الغربية. نقول هذا ونعرف أن الأصوليات جميعها غير متماسكة.
 
العلمنة والغرب:
 
إن علمنة المجتمعات العربية هي المدخل، والسبيل الوحيد للاعتراف بالعقد الاجتماعي، خاصة على صعيد المناوبة على السلطة. إن بين الشعوب العربية والغرب تراثا استعماريا عدوانيا - استبداديا، هو الطاغي في العلاقات، وليس تراثا اجتماعيا يبني على المساواة والتعاون، ويسمح بتحقيق أنسنة الإنسان، وتكريس المواطنة بمعناها الإيجابي.
 
إن المركزية الأوروبية هي ظاهرة استعمارية ثقافية، وإن الغرب يملك المعرفة الفضلي، ويمنع انتشارها (كما يقول سمير أمين)، وهو المسيطر على كتابة التاريخ، وعلى جغرافيات الكثير من الشعوب. إنه نموذج استعماري عالمي، ومشروع لمركزة العالم. وبهذا الواقع الذي هو عليه الغرب، لا بد من وجود صراعات بين مركزيته وأطرافه ممن يريدون الخروج على سيطرته. إن التعددية، بمعناها الإنساني، تسعي إلى أن تكون هناك مراكز تكاملية عدة.
 
إن الخيارات التحررية للشعوب غير الأوروبية تتناقض مع سلوكيات النظام الرأسمالي، خاصة ما جاء به فوكوياما، رسول "نهاية التاريخ"، الذي قال: "إن نهاية الحرب الباردة تمثل النصر النهائي للغرب القائم على الديمقراطية والليبرالية، واقتصاديا على السوق. فالشيوعية ليست الغرب، إنها الشرق الشيوعي، أيضا ليست الغرب الرأسمالي. إن الاتحاد السوفيتي القديم هو الممثل للشرق، فموسكو مناوئة لأمريكا، وليست بديلا من الغرب". ورغم هذا الخطاب الاستعلائي، فإننا نتساءل عن ماهية المعرفة القيمية - الإنسانية، التي أنتجتها الولايات المتحدة في علاقاتها بالشعوب الأخري.
 
إن علاقة القوة التي تمارسها الولايات المتحدة هي علاقة لا تخدم العدالة، بل هي ذاتها النموذج للعدوانية التي تجسدها في علاقاتها مع العالم.
 
4- فلسطين الضائعة بين "الشعب المختار" و"خير أمة أخرجت للناس":
 
خطاب الهزيمة:
 
تعد القضية الفلسطينية عنوانا أساسيا للعدالة الإنسانية في القرن العشرين، ومختبرا للسياسات الدولية. فالمشاريع الغربية هيأت المناخات التي أدت إلى تنفيذ قرار التقسيم عام 1948. هذا القرار، الذي استند ظاهريا إلى "اتفاقية سايكس-بيكو"، ومن ثم إلى وعد بلفور (1917)، شكلا إعلانا بانتهاء الخلافة العثمانية، والبدء بمرحلة استعمارية جديدة، تمثلت باقتسام وتقاسم إرث الخلافة بين الفرنسيين والإنجليز، حيث كانت أحلام الشعب العربي ورغباته تنادي بالاتحاد، والوحدة، والتعاون، لا التجزئة.
 
ينسي البعض ومنهم المؤرخون، أن هذه المعاهدات استمدت مشروعيتها من العودة للأخذ بنظام الملة العثماني الذي شرعت له الخلافة العثمانية في علاقاتها مع مواطنيها من الأقليات، وتم تحويره، والأخذ به، استنادا لمعاهدات النبي محمد -صلي الله عليه وسلم- مع اليهود والمسيحيين في عشرينيات القرن السابع الميلادي. فكان نظام الملة العثماني المبرر الأساسي لإيجاد تراتبيات تشريعية معينة بين طوائف الخلافة العثمانية وأديانها. هذا النظام استند إليه مستشرقون غربيون، قبل وبعد الحرب العالمية الأولي، وهو الذي وظفه المستعمرون في إطار "سايكس- بيكو"، وهو ذاته أيضا شكل الخلفية لـ "وعد بلفور"، وقرارات الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين الفلسطينيين العرب اليهود، والفلسطينيين العرب من المسيحيين والمسلمين. لقد أسهمت الأنظمة العربية الإسلامية  في تهجير مواطنيها من اليهود العرب إلى فلسطين، وكانت بما مارسته تساند الكيان الصهيوني الذي قام بتهجير الفلسطينيين من فلسطين إلى دول الشتات، لتكتمل المأساة بشقيها.
 
في عودة إلى الوراء، نري في العالم الأوروبي، بعد الحرب العالمية الأولي، بروز تيارات فاشية ونازية مهدت المناخات للحرب العالمية الثانية، والتي أدت إلى موت عشرات الملايين من المواطنين، كما أدت إلى خلق مناخات لانتشار نزعة الكراهية، ولاسيما في ألمانيا ضد اليهود الألمان. تلك النزعة أدت إلى قتل عدد كبير من اليهود، وقد استغلها النظام الاستعماري آنذاك لتبرئة ذمته، ولنقل كثير من اليهود الغربيين إلى فلسطين. بهذه الممارسات، وتلك، تم تأسيس الكيان الصهيوني، وكأن الاستعمار كان يحاول أن يتخلص من جرائمه بهذه الطريقة. لقد حل هذا النظام أزمته بنقل اليهود إلى خارج أوروبا. وبهذا، تم إنتاج أزمة جديدة بدأت بتنفيذ "وعد بلفور"، وتقسيم فلسطين. وبهذا، قوض النظام الاستعماري إرث عصر التنوير القائم على المواطنة، والعلمانية، وحقوق الإنسان، وفصل الدين عن الدولة. بهذه الأساليب، اخترق المستعمر النسيج الاجتماعي لأصحاب الوجدان المشترك.
 
هذا الإرث استحضر أيضا رواسب التراث الديني المسيحي - الإسلامي في الحروب الصليبية، لكن على يد الأوروبيين الذين كان لهم دور أساسي في تأسيس الكيان العنصري الصهيوني، وتقديم المسألة اليهودية على أنها قومية متكاملة في ذاتها. إلا أنهم عدّوا الفلسطينيين شراذم بشرية. لقد أدلج الإعلام الغربي للثقافة التي تحمي مصالحه، عادّا أن الصراع هو صراع ديني يهودي - إسلامي.
 
هذه الصورة، التي كان قد رسمها المستشرقون للعالم العربي، هي ما أخذ بها ونفذها المستعمر الإنجليزي - الفرنسي، وهي ذاتها التي تبنتها الأنظمة العربية ضمنيا، وبنت قيمها، وقوانينها، وحروبها على أساسها. بهذه الوسيلة، تم التأسيس ليس لصراع إسلامي - يهودي فحسب، بل لصراعات بين الأديان التي تعيش في هذه المنطقة أيضا. كما تم إنشاء أحزاب قومية انطلاقا من الدمج الكامل بين المكونات القومية، والثقافات الدينية.
 
إن هذا الإرث المستمر سهَّل للمستعمرين السيطرة، كما أنه ذاته شكّل المبرر لكل الحروب الدينية التي كان اليهود، والمسلمون، والمسيحيون وقودا لها، هي ذاتها أعطت التبريرات للنظام الاستعماري الصهيوني، والأنظمة الإسلامية التي خاضت حروبها باسم الدين، لكن لخدمة الحكام المستبدين.
 
بهذه الأساليب والأيديولوجيات، استمر الغرب في سيطرته، كذلك استمرت الأنظمة العنصرية الدينية المستبدة في السلطة. وبهذه الأساليب، تجذرت الخلافات الطائفية والدينية، واستمرت الحروب العبثية بين الطوائف مع بعضها. وبهذه الأساليب التي لم تتم مراجعة لها، تستمر شعوب المنطقة في تعداد ضحاياها و"شهدائها".
 
إن تحرير الأديان من السياسة هو المدخل لعودتها إلى نقائها وعذريتها الأولي. فالإسلام، كما الأديان الأخري، هو دين الله، دين الذين يؤمنون به، ويتوارثون تعاليمه، وليس دين الدولة التي لها دفاتر ضرائب، وحسابات واقعية، وليس إلهية، حسابات يمكن أن تحاسب البشر على أساسها، خصوصا أن هموم الإنسان تتمحور بين الربح والخسارة، وبين ما يمكن أن يؤدي لتحسين ظروف الحياة التي يعيشها، أو العكس. فالإنسان -كل إنسان- مع الدولة التي تنصفه، وتحمي خياراته. إن فصل الدين عن الدولة هو ما قد يؤسس للمساواة، والندية، والحرية بمعناها الفردي، وليس بمعناها "القطيعي"، ويضع حدا لاستحضار الصراعات التي كانت تجري بين ورثة تعاليم النبي موسي مع ورثة تعاليم السيد المسيح، ومع ورثة تعاليم النبي محمد -صلي الله عليه وسلم- خصوصا أن اليهود هم "شعب الله المختار"، وأن المسلمين هم "خير أمة أخرج للناس". لذا، نتساءل: هل كانت الدعوة العلمانية قد أساءت للأديان بقدر إساءة التيارات الدينية المعاصرة إلي نفسها، وإلى أديانها؟ وهل تتعارض التوراة، والإنجيل، والقرآن مع تحسين حياة الناس، وبالتالي توطين القيم المعاصرة التي تستند إلي أنظمة وضعية تشجع على المساواة والحوار، لا على استحضار القيم الدينية لكل طرف، من أجل تأكيد أحقية تعاليمه الدينية على سواه؟ إن العلمانية هي الطريقة الوحيدة للحوار المجتمعي، وهي التي تحد من هيمنة هذا الطرف أو ذاك، ومن فرض ماضيه الزمني على جيرانه وأهله.
 
وإذا كان المطلوب اليوم مقاربة جديدة للقضية الفلسطينية، بتنوع أطرافها من أديان وبشر، فإنه، من خلال العلمانية، يمكن فتح الطرق مجددا للتعاون والحوار بين المكونات البشرية، وأيضا منها يمكن وضع حد للحروب المفتعلة.
 
وعلينا أن نعترف بأن التراثين اليهودي والمسيحي ليسا دخيلين على الإسلام. فالإنسان له حريته في أن يرث ما يشاء من ثقافات، وطقوس، وعادات دينية أو غير دينية، لكن ليس من حقه أن يسعي إلي فرض حضوره على أساس انتمائه الديني. إن الاسم الحقيقي الجامع للكل هو الهوية الإنسانية، حيث تعيش جميع الأطراف فوق أرض واحدة، ومكان واحد تتوارثه وتستثمره معا، دون تفرقة وتمييز بين إنسان وآخر على أساس ديني، أو عرقي، أو إثني، أو عقائدي.
 
لذا، فالمطلوب فتح الطرق للعمل على نشر ثقافة حياة جديدة ومعاصرة، ثقافة لن تحتاج شعوب المنطقة بعدها لاستحضار الرواسب الدينية التي أوصلتنا إلي ما نحن فيه. لقد عاش جدودنا معا كفلاحين، وقد جمعتهم الأرض وستجمعهم مجددا المصانع، والمدارس، والمؤسسات الاجتماعية على اختلافها، وستكون الأرض وطنا للجميع.
 
وعلينا أن نعيد النظر بطريقة استخدام بعض المقولات الدينية، مثل "شعب الله المختار"، و"خير أمة أخرجت للناس" .. وغيرهما، حتي لا تستغل ذريعة لحروب دائمة، سواء من قبل الأنظمة الاستبدادية الحاكمة، أو من قبل الغرب الاستعماري. إن ما يشكل النقيض لهذه "الأنا" الدينية المتعصبة هو إعادة المكانة لفكرة الإنسان لذاته.
 
لقد تحولت القضية الفلسطينية من قضية وطنية قومية عربية إلى قضية صراع أديان لا نهاية له. من هنا، فإن المأمول من الأجيال الجديدة السعي إلى نشر ثقافة تؤسس للثقة والتعاون بين المكونات العربية  القومية، ونشر تربية تعزز ثقافة الحوار، والثقة بالنفس، وقبول الآخر، مقابل ثقافة الكراهية التي ما أنتجت سوي الحروب، والقتل، والدم، ومجتمعات مستلبة مستهلكة تخجل من هويتها، ومن إنتاجها. إن فلسطين هي أرض اليهود والمسيحيين، مثلما هي أرض المسلمين. وبهذا الإطار، يمكن الابتعاد عن الثقافة التي توظف القيم الدينية لتبرير التمايز، والظلم، والموت، والصراعات باسم الدين. كما يمكننا التساؤل: هل يطمئن اليهود، بشقيهم الغربيين والشرقيين، لمستقبلهم، وهم يسهمون بقتل مواطنيهم من الفلسطينيين؟ وهل يرضي الفلسطينيون المسلمون بردات الفعل التي تستهدف المدنيين من اليهود؟
 
وفي هذا السياق، يقول عبدالحميد بن هدوقة "إن أكبر جريمة يرتكبها الإنسان ضد نفسه، وضد البشرية، هي البطالة". فماذا تعني هذه الجملة لمؤسسات دينية ليس لها وظيفة منتجة سوي تحريض الناس ضد بعضهم بعضا؟ إن النضال الحق اليوم ليس التضحية بالنفس، بل العمل على معالجة تفشي الأمية، عبر مستوياتها كافة: الإنسانية، والثقافية، والدينية، والفكرية، وبالأخص التربوية، والحد من البطالة، والتبعية، وتوطين ثقافة العصر العلمية - الإنمائية، وتحويل الميزانيات التي تصرف على الحروب لمعالجة قضايا المجتمع وأزماته.. وساعتئذ، ستحل قضية فلسطين، وستكون فلسطين الصورة الجديدة للإنسان العربي الجديد.
 
تكمن المشكلة الحقيقية التي تعتري العلاقة بين اليهود، والمسيحيين، والمسلمين في السياسة التي تصطبغ بصبغة دينية، حيث تحاول الأنظمة الاستبدادية العربية، والعنصرية الصهيونية الحفاظ على مصالحهما، من خلال تحالف مبطن وغير معلن. لذا، فإن الحل يبدأ بمنهجية سياسية وتربوية علمانية جديدة. فالجميع معنيون بالتخطيط لواقعهم ولمستقبلهم. كما أن على المواطن العربي أولا، اليهودي ضمنا، أن يري أمامه أن المشكلة تكمن فيما وضع في أتونه من صراع أبدي مع جاره. فالصراع العربي - الإسرائيلي، الدائر حاليا، هو صراع مع الجغرافيا، ذلك لأن الجغرافيا هي العدو الأول والأساسي للنزعة الصهيونية.
 
بهذه الأساليب، نستطيع أن نحول الصراع من صراع ديني قبائلي إلي تنافس إنساني خارج المنظومة الرأسمالية.

رابط دائم: