كيف نخرج من النفق؟
7-8-2016

د. محمد السعيد إدريس
* مستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام‮.‬
إذا كانت القمة العربية الأخيرة التي عقدت في نواكشوط، بكل ما لها وما عليها، قد حملت إنذاراً بالخطر لكل العرب، يضعهم أمام أحد خيارين، إمّا الانفراط النهائي والتشرذم، وإمّا نفض الغبار اللعين بكل روائحه الكريهة، واستعادة زمام المبادرة والبدء من جديد، لإحياء مشروع النهضة العربية والتصدي لكل نوازع التفكك والانهيار، فإن القرار سيبقى في النهاية مرهوناً بإرادة الشعب العربي في كل أقطاره. لكن دائماً يبقى السؤال هو: هل يمكن للعرب الخروج من النفق المظلم، وكيف؟!
 
هذا السؤال كان عنواناً، ومازال، لمبادرات صادقة طرحتها مجموعات واعية وصادقة في وعيها بأن: «الأمة مازالت تستطيع». وكان السؤال الشاغل هو: هل ثمة مخرج من كابوس عملية التفتيت والتفكيك الجارية الآن على قدم وساق للوطن العربي، على ضوء ثلاثة تطورات بارزة شديدة الخطورة، هي على الترتيب:
 
- عجز مشاريع الإسلام السياسي المتنوعة، من الإسلام الإيراني إلى العثمانية التركية إلى السلفية الجهادية التكفيرية والأصوليات الأخرى، عن وقف تداعيات هذا التفتيت، بل وتورط معظم هذه المشاريع في تعميق عنف هذه التداعيات، ناهيك عن تقديم حلول ومخارج ناجعة للأمة.
 
- تداعي مشروع الدولة القطرية (الوطنية) العربية بفعل فشلها في الإنجاز، والقيام بالوظائف المنوطة بها، خاصة وظائف الأمن والتكامل والتنمية، ما جعلها غير قادرة على كسب الولاءات الشعبية، ومن ثَمّ عرضة لتلقي الضربات والصدمات ومشاريع الاختراق وإعادة التقسيم، دون حول ولا قوة.
 
- تنامي وتصاعد الهويات الفرعية ما قبل الوطنية والقومية، ولاءات عرقية، وأخرى دينية وطائفية، فاقمت العجز.
 
لقد تعددت الإجابات والاجتهادات عن سؤال: هل يمكن الخروج من النفق، وكيف؟!
 
وكانت إجابتنا هي: نعم، ومن خلال مشروع وطني للإنقاذ له أفقه القومي. فإذا كان مشروع الإسلام السياسي، ومعه مشروع الدولة الوطنية قد فشلا في الحفاظ على الحد الأدنى من وجود الأوطان التي باتت معرضة للتبعثر، ومعها الهوية الوطنية ذاتها فإن العروبة والمشروع القومي العربي، باتا طوق النجاة الباقي لهذه الأمة، وربما الوحيد للحفاظ على بقاء الدولة العربية.
 
تحقيق ذلك له ثلاثة مرتكزات، اثنان منها مرتبطان بالنظام العربي الذي يجب الحفاظ عليه وتطويره، أمّا المرتكز الثالث فهو شعبي بحت، يعمل بتناغم وانسجام من دون تعارض أو تنافر مع المرتكزين النظاميين، وهما توفير قيادة عربية قادرة على تحمل مسؤوليات النهوض بالعمل العربي الوحدوي المشترك، عبر إعادة تفعيل جامعة الدول العربية للقيام بالوظائف الأساسية المطلوبة: وظائف الأمن والتكامل والتنمية، أمّا المرتكز الثاني فهو التوافق على أجندة عمل عربية للإنقاذ، أمّا المرتكز الثالث فهو تأسيس حركة تحرر عربية وحدوية وديمقراطية تعمل جنباً إلى جنب مع القيادة الرسمية للنظام العربي، حركة تحاكي حركة التحرر العربية التي استطاعت الأمة العربية تفجيرها في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي التي قادتها ثورة 23 يوليو/تموز 1952، وزعيمها جمال عبدالناصر.
 
لقد كانت لحركة التحرر العربية تلك خصوصياتها، وفي مقدمتها أنها كانت تجسيداً واستجابة لطموحات الشعب العربي في النهوض والاستقلال والتقدم، ولمواجهة تحديات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي مقدمتها تحدي الكيان الصهيوني في فلسطين، ورواسب الحرب العالمية الأولى، كما جاءت انسجاماً مع القيم والمبادئ التي ارتكز عليها النظام العالمي الجديد، خاصة مبادئ التعاون الدولي، وحل المشاكل والأزمات بالطرق السلمية، ونبذ الحروب، ورفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول والدفاع عن سيادتها واستقلالها الوطني، لكنها كانت أيضاً، وهذا هو الأهم، تعبيراً عن واقع سياسي عربي جديد، فرضه تفجر الثورة العربية في مصر، وبروز زعامة جمال عبدالناصر التي جعلت من مصر الناصرية قاعدة للنضال التحرري والوحدوي.
 
حركة التحرر العربية الجديدة التي نريدها يجب أن تكون شعبية، وأن تكون ديمقراطية بالقدر ذاته، وأن تمتد في عضويتها لتشمل القوى المؤمنة بوحدة الأمة والحريصة كافة، على دعم بقاء ووجود الدولة العربية، والرافضة لمخطط إعادة التقسيم والصراع والاستقطاب الطائفي، وهي التي يمكن أن نسميها ب «الكتلة التاريخية العربية» القادرة على تحمل مسؤولية التصدي لكل المخاطر التي تهدد وطننا العربي.
 
الوصول إلى هذه الكتلة التاريخية يتم عبر حزمة من الآليات التي باتت ضرورية، أولى هذه الآليات الوصول إلى وفاق وطني داخلي يجمع كل القوى صاحبة المصلحة في الدفاع عن الوطن وأمنه وسلامته، ضمن صياغة مشروع وطني جديد يؤمن بالمشاركة السياسية، من دون تخوين لكل من لم ينخرط في أي سياسات أو ممارسات عدائية لدولته. الآلية الثانية هي ربط النضال الوحدوي بالنضال الديمقراطي، مدعوماً بالنضال من أجل العدل الاجتماعي. 
 
أمّا الآلية الثالثة فهي طرح مفهوم جديد للديمقراطية قادر على حماية حق الشعب في المشاركة الفعالة في القرار، هو مفهوم «الديمقراطية التشاركية» كمفهوم بديل وعصري ل «الديمقراطية الليبرالية». وأخيراً ربط هذه الحركات الوطنية التحررية داخل الأوطان مع مثيلاتها في الأقطار العربية الأخرى، بحيث يتحقق تحالف شعبي عريض يضم التيارات الفاعلة كافة، في المجتمعات العربية التي سيكون بمقدورها صياغة وقيادة مشروع عربي جديد للنهضة.
 
حركة التحرر العربية الجديدة التي نريدها يجب أن تكون شعبية، وأن تكون ديمقراطية بذات القدر
 
---------------------------
* نقلا عن دار الخليج، 7-8-2016.

رابط دائم: