منذ أكثر من عقد، لم تنجح ليبيا فى تجاوز الانقسام السياسى والصراع المسلح الذى بدأ عقب سقوط نظام معمر القذافى عام 2011. فعلى الرغم من تعدد المبادرات والاتفاقات، بدءًا من اتفاق الصخيرات عام 2015، مرورًا بمؤتمرى برلين وخارطة الطريق الأممية فى 2021، عانى المشهد السياسى الليبى من هشاشة مستمرة، وغاب التوافق الحقيقى بين مؤسسات الدولة، ما أدى إلى انجراف البلاد فى مرحلة انتقالية طويلة بدون ملامح واضحة لنهايتها. فى هذا السياق، قدّم المبعوث الأممى عبدالله باتيلى مبادرة جديدة خلال عام 2023، تهدف إلى كسر الجمود السياسى، من خلال دعوة الأطراف الليبية إلى حوار موسع، يبحث القضايا الخلافية بين الجانبين الليبيين، كما يضع أساسًا للانتخابات وإنهاء المرحلة الانتقالية. غير أن المبادرة، ورغم مرور أكثر من عامين على إطلاقها، لم تنجح فى تحويل الزخم الدبلوماسى إلى مسار فعلى، بسبب تعقيدات المشهد الداخلى، وضعف الإرادة السياسية، وتداخل الحسابات الإقليمية والدولية. ومع دخول عام 2025، وتزايد التحولات فى موازين القوى داخل العاصمة طرابلس، خاصة بعد اغتيال عبدالغنى الككلى، تجدد النقاش حول المبادرة الأممية، باعتبارها اختبارًا فعليًا لقدرة الأمم المتحدة على تبنى اتفاق سياسى يحظى بقبول محلى، ويعيد ضبط التوازن بين المسارات السياسية والأمنية. يهدف هذا المقال إلى تحليل إخفاقات المسارات السابقة، واستعراض مضامين مبادرة باتيلى وردود الفعل المحلية عليها، قبل الانتقال إلى تقييم فرص نجاحها وحدود الفشل المحتملة فى ضوء التطورات الجارية خلال عام 2025، مع محاولة استشراف الاتجاهات التى قد يسلكها المسار السياسى الليبى فى الفترة المقبلة.
أولًا- إخفاقات المسارات السابقة وتآكل الثقة فى التسوية:
منذ اندلاع النزاع الليبى عقب سقوط نظام العقيد معمر القذافى عام 2011، تعاقبت مبادرات التسوية السياسية التى استهدفت إنهاء الانقسام المؤسسى والصراع المسلح المستمر منذ عام 2014، إلا أن معظم هذه المبادرات فشلت فى تحقيق استقرار دائم أو كسر حالة الانسداد السياسى الراهنة. مع بداية عام 2020، شهدت ليبيا جولات جديدة من المحاولات للتسوية، كان أبرزها اتفاق وقف إطلاق النار الذى تم التوصل إليه عبر اللجنة العسكرية المشتركة (5+5)، والذى مثل نقطة تحول مؤقتة فى مسار النزاع. هدفت هذه المبادرة إلى تهدئة الأوضاع الأمنية وسحب القوات الأجنبية، تمهيدًا لمرحلة انتقالية سياسية شاملة. ورغم ذلك، لم يُترجم الاتفاق إلى واقع عملى بسبب غياب جهاز أمنى موحد، وتعدد مراكز القوى العسكرية، بالإضافة إلى افتقار الأطراف المتصارعة للإرادة السياسية اللازمة لتنفيذ بنوده. فى عام 2021، حاول مجلس النواب دفع عملية تنظيم انتخابات شاملة باعتبارها مدخلًا لإنهاء المرحلة الانتقالية، لكن هذه المحاولة اصطدمت بسلسلة من العقبات البنيوية، أهمها الخلافات حول القاعدة الدستورية والجدل المتزايد بشأن أهلية الترشح، خصوصًا مع السماح بعودة شخصيات من النظام السابق إلى المشهد السياسى. كما زاد من تعقيد الوضع ترشح عبد الحميد الدبيبة للرئاسة رغم وعوده بعدم المشاركة، مما أدى إلى تعميق الانقسام بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وأضعف فرص تحقيق توافق وطنى.
عام 2022 شهد إطلاق المجلس الرئاسى مبادرة سياسية حاولت كسر حالة الجمود بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة عبر فتح قنوات تشاور برعاية البعثة الأممية، بهدف إنهاء المرحلة الانتقالية، والتوصل إلى دستور دائم، ثم إجراء انتخابات. لكن المبادرة واجهت تحديات جسيمة، من بينها محدودية صلاحيات المجلس الرئاسى، وغياب النفوذ الميدانى والقدرة على الضغط، إلى جانب رفض المجلس الأعلى للدولة المشاركة، وعدم صدور موقف رسمى واضح عن مجلس النواب، مما أدى إلى تجميد المبادرة رغم تأييد المبعوث الأممى. فى العام ذاته، سعى فتحى باشاغا إلى تقديم نفسه كبديل سياسى لحكومة الوحدة الوطنية بدعم من مجلس النواب، فى محاولة لتوحيد الصفوف، إلا أن فشله فى دخول طرابلس كشف هشاشة التحالفات السياسية، وأدى إلى تجدد الاشتباكات المسلحة، حيث تحولت تحالفات الفصائل المسلحة إلى حسابات ضيقة ومصالح غير وطنية، مما أضعف فرص الاستقرار. وفى سياق متصل، تأتى مبادرة باتيلى التى طرحت عام 2023 كمحاولة لإعادة ضبط المسار السياسى، لكنها جاءت فى ظل بيئة أكثر هشاشة ومجتمع دولى متغير، مما يجعل تقييم فرص نجاحها وتحدياتها أكثر تعقيدًا من أى وقت مضى.
ثانيًا- مبادرة باتيلى والتفاعل الليبي:
فى ظل حالة الانسداد السياسى وتآكل شرعية الكيانات القائمة فى ليبيا، طرحت بعثة الأمم المتحدة للدعم، بقيادة عبدالله باتيلى، مبادرة سياسية جديدة فى عام 2023، سعيًا لكسر الجمود القائم والدفع نحو مسار تسوية شامل. تمثلت المبادرة فى دعوة الأطراف المؤسسية، ممثلة فى المجلس الرئاسى، ومجلس النواب، والمجلس الأعلى للدولة، وحكومة الوحدة الوطنية، والقيادة العامة للجيش، إلى اجتماع تحضيرى يمهّد لانعقاد لقاء موسع بين القادة، يُناقش من خلاله جدول الأعمال والقضايا الخلافية التى تعرقل تنفيذ الاستحقاقات الانتخابية. وقد حرص باتيلى على توسيع نطاق المبادرة من خلال إشراك فواعل غير رسمية، مثل الأحزاب السياسية، والمثقفين، وممثلى المرأة والشباب، والمكونات الثقافية واللغوية.
ورغم ما حملته المبادرة من توجه تشاركى، جاءت ردود الفعل المحلية لتكشف عن تباينات حادة، تعكس هشاشة الإرادة السياسية واستمرار التوجّس المتبادل بين الأطراف. ففى تقرير نشر بتاريخ 1 مارس 2023، عبّر مجلس النواب والحكومة المكلّفة من قبله، بقيادة فتحى باشاغا، عن تحفظات صريحة تجاه المبادرة، معتبرين أنها تتجاوز مرجعيات اتفاق الصخيرات، وتُقصى المؤسسات "الشرعية"، إلى جانب رفضهم لما وصفوه بتدويل الأزمة وتجاهل ملفات أساسية، مثل تعطيل المصالحة وانتشار الفساد. فى المقابل التزمت أطراف أخرى، من بينها المجلس الأعلى للدولة، والمجلس الرئاسى، وحكومة الوحدة الوطنية، والقيادة العامة بقيادة المشير خليفة حفتر، الصمت حيال المبادرة، فى موقف يمكن تفسيره إما كتحفّظ حذر أو انتظار لمزيد من التفاصيل. أما على المستوى المجتمعى، فقد رحّب سيف الإسلام القذافى بالمبادرة، وأعلن دعمه الكامل لها، كما أعلنت قبائل الطوارق وعدد من الأحزاب تأييدها الصريح، مع مطالبات بضمان التمثيل داخل اللجنة التوجيهية. هذا التباين الواضح يُعيد التأكيد على عمق الانقسام، ويضيف تحديات جديدة أمام أى مسار تسوية تقوده الأمم المتحدة.
فضلًا عن التباين فى المواقف، تعانى المبادرة من إشكاليات بنيوية تتعلق بجوهر مقاربتها، إذ لم تقدّم تصورًا متكاملًا يُعالج ترابط الملفات السياسية، والأمنية، والاقتصادية، وهو ما أعاد تكرار إخفاقات مبادرات سابقة، اعتمدت بدورها على تجزئة المسارات دون بناء رؤية موحدة. وقد انعكس ذلك فى تعثّر ملفات كالمصالحة الوطنية، وتوحيد المؤسسات، وتحسين الأوضاع المعيشية. وتُعد معضلة الميليشيات المسلحة فى الغرب الليبى أحد أبرز التحديات التى لم تتناولها المبادرة بجدية، رغم تأثيرها المباشر على استقرار البلاد. فهذه الجماعات لا تزال تمثل مراكز نفوذ حقيقية على الأرض، وتُستخدم أحيانًا كأدوات سياسية لتعطيل العملية الانتخابية أو التأثير على توازن القوى داخل العاصمة. فى المقابل، تحاول بعض الأطراف دمجها فى مؤسسات الدولة، مما يزيد من تعقيد جهود توحيد المؤسسة الأمنية والعسكرية، ويُضعف فرص إجراء انتخابات نزيهة وشفافة. إلى جانب ذلك، أثار غياب معايير واضحة لاختيار اللجنة التحضيرية، ومخاوف من إعادة إنتاج الانقسام فى هياكل جديدة، تساؤلات حول مدى فعالية المبادرة فى بناء توافق حقيقى. ومع مرور عامين على طرحها، وتحديدًا مع دخول عام 2025، يتضح أن المبادرة لم تفلح فى تحريك الجمود أو خلق مسار عملى نحو الانتخابات وتوحيد السلطة، وهو ما يُحتم إعادة النظر فى مقاربتها التنفيذية، وضمان وجود آليات حوكمة أكثر فعالية وقبولًا محليًا.
ثالثًا- فرص نجاح المبادرة وحدود الفشل فى المسار السياسي:
رغم تعثر تنفيذ مبادرة باتيلى منذ طرحها عام 2023، وتنامى الشكوك حول جدواها مع دخول عام 2025، إلا أن احتمالات النجاح لم تُغلق بشكل كامل، إذ لا تزال هناك فرص واقعية يمكن البناء عليها لإعادة تفعيل المبادرة أو إطلاق مسار سياسى بديل أكثر شمولًا. من أبرز هذه الفرص بقاء قنوات التواصل مفتوحة بين الأطراف، واستمرار الجهود الدولية لإعادة صياغة المقترحات القديمة بصيغ معدلة تراعى التحفظات الداخلية وتوازنات القوى الفعلية على الأرض. كما أن تآكل شرعية المؤسسات القائمة قد يدفع بعض الأطراف الليبية إلى القبول بمبادرات أكثر جرأة، تحت مظلة أممية أو إقليمية.
فى المقابل، تبدو حدود الفشل أكثر وضوحًا، إذ لا تزال البيئة السياسية الليبية تعانى من انعدام الثقة، وتضارب المصالح، وغياب الضمانات الحقيقية لأى اتفاق سياسى جديد. وتتجلى مظاهر الفشل المحتمل فى رفض مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة لأى مسار يتجاوز "شرعيتهما"، بالإضافة إلى معارضة بعض القوى المسلحة، لا سيما فى الغرب الليبى، لأى تسوية لا تضمن استمرار نفوذها.
وزادت هذه التحديات تعقيدًا بعد اغتيال عبدالغنى الككلى (غنيوة) فى 12 يونيو 2025، وهو الحدث الذى شكّل نقطة تحول فى موازين القوى الأمنية داخل العاصمة طرابلس، وفتح الباب أمام صراعات جديدة بين مجموعات مسلحة تسعى لسد الفراغ الأمنى، مما يزيد من هشاشة أى اتفاق سياسى محتمل. كما يُعد غياب الإرادة الدولية الموحدة، وتضارب أجندات الأطراف الإقليمية، إلى جانب ضعف الإرادة السياسية داخل ليبيا، عائقًا كبيرًا أمام صياغة خارطة طريق واضحة تحظى بدعم فعلى وقابل للتنفيذ. ومع ذلك، ثمة مؤشرات إيجابية لا تزال قائمة، منها الدعم الشعبى المتزايد لأى تسوية تنهى المرحلة الانتقالية الطويلة، والضغوط الاقتصادية المتصاعدة التى قد تدفع الأطراف نحو تسويات صعبة لكنها ضرورية. كما أن تطور المشهد فى الجنوب الليبى وتصاعد مشاعر التهميش السياسى والخدمى قد يفتح المجال أمام قوى جديدة للمطالبة بالمشاركة فى صياغة مسار أكثر تمثيلًا وتوازنًا. هذه المتغيرات، إذا ما استُثمرت بشكل فعّال، يمكن أن تُنتج لحظة توافق نادرة فى المشهد الليبى.
ختامًا، تعتمد فرص نجاح أى مبادرة سياسية فى ليبيا، بما فى ذلك مبادرة باتيلى، على مدى استعداد الأطراف الليبية للانخراط فى عملية تفاوض جادة تستند إلى قاعدة دستورية واضحة، وترتكز على مبدأ الشراكة المتوازنة فى الحكم. كما يبقى وجود طرف أممى محايد قادر على إدارة التفاوض وفرض آليات تنفيذ ومحاسبة، عاملاً حاسمًا فى نجاح أى تسوية محتملة. وفى حال غياب هذه المقومات، فإن الجمود السياسى قد يستمر ويتحول إلى حالة دائمة تغلق معها نوافذ الاستقرار لعقد إضافى.
المصادر:
1- خالد خميس السحاتى، "تطورات المشهد الليبى.. بين تجاذبات الداخل وصراعات القوى الخارجية," *آفاق استراتيجية*، العدد 3، يونيو 2021.
2- "خلط الأوراق: هل يستعد المجلس الرئاسى الليبى لطرح مبادرة جديدة؟"، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 6 أكتوبر 2022.
https://futureuae.com/lists.tar.gz/Mainpage/Item/7683
3- د. خالد خميس السحاتى، "مستقبل الأزمة الليبية فى ظـل ازدواجـية السلطـة"، *آفاق مستقبلية*، العدد الثالث، يناير 2023، مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار.
4- "تحالفات هشة: تراجع فرص نجاح مبادرة الرئاسى الليبى فى تجاوز الانقسام السياسى"، مركز المستقبل للدراسات المتقدمة، 14 ديسمبر 2022.
https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/7855
5- عبدالله بلال، "تعدُّد مسارات التسوية الليبية: المبادرات الراهنة والسيناريوهات المحتملة." مركز الإمارات للسياسات، 5 فبراير 2024.
https://epc.ae/ar/details/scenario/taaddud-masarat-altaswia-alliybia-almubadarat-alrahina-walsiynaryuhat-almuhtamala
6- محمد فوزى، "لماذا تتعثر جهود البعثات الأممية إلى ليبيا"، المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية*، 21 يونيو 2024.
https://ecss.com.eg/46357/
7- "الحوار الخماسى: لماذا لن تقود مبادرة 'باتيلي' إلى اختراق الجمود الليبى "، مركز المستقبل للأبحاث ودراسات المستقبل المتقدمة*، 29 ديسمبر 2023.
https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/8901
8- بلال عبدالله، "الجمود والتعطيل: مبادرة 'باتيلي' ومأزق التسوية السياسية فى ليبيا"، مركز الإمارات للسياسات*، 8 ديسمبر 2023.
https://epc.ae/ar/details/featured/-mubadarat-bathily-wamaziq-altaswia-alsiyasia-fi-libya
9- أحمد عليبة، "هل يتحول دور البعثة الأممية فى ليبيا من 'الوساطة' إلى 'الوصاية'؟" *مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 28 فبراير 2023.
https://acpss.ahram.org.eg/News/17825.aspx
10- خالد خميس السحاتى، "آفاق التسوية السياسية فى ليبيا خلال عام 2024"، *آفاق مستقبلية*، العدد 4، يناير 2024. مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار.