لم تعد القرارات السياسية الكبرى تُتخذ بناءً على الرؤى الفردية أو التقديرات التقليدية، بل أصبحت التكنولوجيا اليوم الفاعل الأبرز والمحرك الديناميكى فى كواليس صناعة القرار السياسى الدولى. حيث تحوّلت التكنولوجيا من مجرد وسيلة للتواصل أو تبادل المعلومات إلى قوة استراتيجية تُعيد رسم خريطة السياسات العالمية. فمن خلال أدوات متقدمة كتحليلات البيانات الضخمة، والتنبؤات المستقبلية المدعومة بالذكاء الاصطناعى، باتت المعلومة الدقيقة والتوقع المستقبلى عنصرين حاسمين فى توجيه السياسات وصناعة القرارات الإقليمية والدولية.
ولا يقف تأثير التكنولوجيا عند حدود جمع وتحليل المعلومات، بل يمتد ليعزز سرعة وكفاءة تبادلها، ويُمكّن من المراقبة اللحظية للتطورات العالمية، ويوفر إمكانات استباقية للتنبؤ بالأزمات وتقييم السياسات قبل تنفيذها.
يُقدم هذا المقال قراءة تحليلية شاملة لدور التكنولوجيا فى بنية القرار السياسى الدولى، من خلال تحليل أدوارها الصريحة والضمنية، واستكشاف ما تطرحه من فرص وتحديات، وما تستدعيه من أُطر قانونية وأخلاقية تواكب هذا التحول العميق فى المنظومة الدولية.
1- المحور الأول- التحول الرقمى فى بنية القرار السياسى الدولي:
شهدت بنية صنع القرار السياسى الدولى تحولا جذريا خلال العقود الأخيرة، مدفوعة بالثورة الرقمية التى تجاوز تأثيرها حدود المجالات التقنية والاقتصادية، لتطال البنى الأساسية لآليات اتخاذ القرار السياسى على المستويين الإقليمى والدولى. فقد أسهم التحول الرقمى فى إعادة تشكيل النظام الدولى، ليس فقط عبر الأدوات الجديدة المستخدمة فى تحليل الواقع واتخاذ القرارات، بل أيضا من خلال تغيير طبيعة الأطراف الفاعلة، وتوزيع موازين النفوذ، وتسريع وتيرة الاستجابة للأزمات.
وباتت تقنيات البيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعى، وأدوات الرصد والتحليل الآنى، عناصر محورية فى صياغة السياسات الخارجية، وتقييم المخاطر، واستشراف السيناريوهات المستقبلية. حيث لم يعد التحول الرقمى مجرّد أداة تمكينية، بل أصبح مكوّنًا هيكليًا فى عملية اتخاذ القرار السياسى. ولم يَعُد صَانع القرار يعتمد فقط على التقارير والدبلوماسية التقليدية، بل باتت التحليلات المعتمدة على الذكاء الاصطناعى قادرة على معالجة ملايين البيانات فى وقت قياسى هى المرجع الأساسى فى صياغة الرؤى والسياسات.
فى السياق ذاته، أعاد التحول الرقمى رسم خارطة النفوذ الدولى، حيث أضحى بإمكان دول متوسطة، بل وصغيرة، التأثير فى القرار السياسى العالمى من خلال امتلاك بنى تحتية رقمية متقدمة، وقدرات سيبرانية فعالة، ومنصات إعلامية رقمية ذات تأثير واسع. كما برزت كيانات جديدة غير حكومية – مثل شركات التكنولوجيا العملاقة ومنصات التواصل الاجتماعى – كلاعبين مؤثرين بشكل مباشر أو غير مباشر، سواء عبر التأثير على الرأى العام، أو من خلال احتكار البيانات والمعلومات الحيوية.
إلى جانب ذلك، فرض التحول الرقمى تحديات معقدة تتعلق بالأمن السيبرانى، وحماية الخصوصية، وضمان موثوقية المعلومات. هذه التحديات أصبحت جزءًا لا يتجزأ من البيئة السياسية الدولية المعاصرة، فى وقت بات فيه اتخاذ القرار السياسى يتطلب يقظة تكنولوجية دائمة، ومرونة مؤسسية قادرة على التكيف السريع مع التطورات المتسارعة فى مجالات الذكاء الاصطناعى، والتعلم الآلى، وتحليل البيانات.
وعليه، لم يعد التحول الرقمى مجرد تطور تقنى، بل تحولًا بنيويًا عميقًا فى طبيعة ومنهجية صناعة القرار السياسى الدولى. وهو ما يفرض إعادة صياغة المفاهيم التقليدية للقوة والنفوذ والسيادة، إلى جانب تطوير أدوات تحليل العلاقات الدولية بما يواكب منطق العصر الرقمى ومتطلباته المتسارعة.
2- المحور الثانى- التكنولوجيا كصانع خفى للقرار السياسي:
فى ظل التحولات المتسارعة التى يشهدها العالم، باتت التكنولوجيا لاعبًا محوريًا فى عملية صنع القرار السياسى، حيث توفر أدوات تقنية حديثة تتيح لصانعى القرار فهم التحديات المعقدة والتعامل مع المتغيرات الدولية بسرعة وكفاءة، ومن أبرز هذه الأدوات:
2/1 البيانات الضخمة:
تُعد البيانات الضخمة من أهم الأدوات التى تُستخدم فى رصد وتحليل الأحداث الجارية على المستويين المحلى والدولى. فمن خلال تتبع الكم الهائل من المعلومات الرقمية المتدفقة من مصادر متعددة، مثل:منصات التواصل الاجتماعى، والتقارير الحكومية، ووسائل الإعلام، يتمكن صانعو القرار من استشراف الاتجاهات المستقبلية ورصد المؤشرات الكمية التى تسهم فى بناء سياسات أكثر فاعلية.
2/2 الذكاء الاصطناعي:
يُشكل الذكاء الاصطناعى أداة تحليلية متقدمة تُستخدم للتنبؤ بالأزمات السياسية والاجتماعية قبل وقوعها، وذلك من خلال تحليل الأنماط السلوكية المتكررة لدى الأفراد والمؤسسات والدول. كما يُسهم فى تطوير سيناريوهات بديلة لمواجهة التحديات المعقدة، ويُعزز من قدرة متخذى القرار على اتخاذ قرارات مُستنيرة وفعّالة فى ظل ضغوط سياسية متزايدة.
2/3 الخوارزميات التحليلية:
تُعد الخوارزميات التحليلية أداة فعّالة فى دعم السياسات الدولية، حيث تُستخدم لمحاكاة السيناريوهات المختلفة وتوقّع نتائج القرارات السياسية والاقتصادية، مما يساعد فى اتخاذ قرارات مبنية على بيانات دقيقة. كما تسهم فى رصد الأزمات والتوترات الجيوسياسية من خلال تحليل المعلومات من مصادر متعددة، وتقييم فعالية التدخلات الدولية كالمساعدات أو العقوبات، مما يُمكّن صانعى القرار من التحرك بشكل استباقى ومدروس.إلى جانب ذلك، تتيح الخوارزميات فهمًا أعمق للرأى العام العالمى من خلال تحليل البيانات الرقمية وسلوك المستخدمين على الإنترنت، وهو ما يساعد فى توجيه الخطاب الدبلوماسى وصناعة التحالفات الدولية. وبذلك، تمثل هذه الخوارزميات رافعة استراتيجية لتحسين فعالية السياسة الخارجية.
ورغم الفوائد الكبيرة التى تقدمها هذه الأدوات، إلا أن استخدامها لا يخلو من التحديات، فهى قد تتأثر بتحيزات كامنة فى تصميم النماذج الرياضية التى تستخدم فى تحليل البيانات، كما تفتقر إلى القدرة على فهم السياقات الاجتماعية والثقافية المعقدة، مما قد يؤدى إلى قرارات غير دقيقة أو غير ملائمة لخصوصيات المجتمعات المستهدفة. من هنا تبرز أهمية الدمج بين الأدوات التكنولوجية والخبرة البشرية لضمان إنتاج قرارات سياسية أكثر توازنًا وعمقًا وشمولًا.
3- المحور الثالث- الدبلوماسية الرقمية.. أداة جديدة فى رسم السياسات الدولية:
الدبلوماسية الرقمية هى استخدام التقنيات الرقمية والإنترنت فى إدارة العلاقات الدولية،حيث تهدف إلى تعزيز التواصل بين الحكومات والشعوب، وتحسين الفهم المتبادل والتعاون فى مختلف المجالات.
من أبرز عناصرها التواصل الفورى، الذى يمكّن الدبلوماسيين من التفاعل مع نظرائهم فى أى وقت ومن أى مكان باستخدام الوسائل الرقمية الحديثة، مما يُسرّع عملية اتخاذ القرار ويعزز فعالية العمل الدبلوماسى.
وتُعد الشفافية من السمات الأساسية للدبلوماسية الرقمية، حيث تتيح وسائل الإعلام الرقمى نشر الأخبار والبيانات بشكل مباشر، مما يزيد من الثقة بين الدول والشعوب.
أما التفاعل مع الجمهور، فهو أحد أبرز مميزات هذا النوع من الدبلوماسية، فعبر منصات التواصل الاجتماعى، يمكن للجمهور التعبير عن رأيه والتأثير فى السياسة الخارجية، مما يعزز من الشفافية والمساءلة.
كذلك تلعب الدبلوماسية الرقمية دورًا مهمًا فى تعزيز التعاون الدولى لمواجهة التحديات المشتركة، مثل تغير المناخ والأمن السيبرانى، من خلال تسريع تبادل المعلومات وبناء توافقات سياسية أوسع، مما يسهم فى تطوير حلول مشتركة للقضايا التى تهدد استقرار العالم.
4- المحور الرابع- الأمن السيبرانى والتشريعات الرقمية.. بين التحديات العالمية والواقع القانونى فى مصر:
أصبح الأمن السيبرانى أحد أبرز التحديات التى يواجهها العالم فى العصر الرقمى، ليس فقط على المستوى التقنى، بل أيضًا باعتباره قضية ذات أبعاد سياسية واستراتيجية تمسّ جوهر السيادة الوطنية. ومع تصاعد الهجمات السيبرانية التى تستهدف البُنى التحتية الحيوية، والمؤسسات الحكومية، ووسائل الإعلام، بات من الواضح أن المعلومات قد أصبحت سلاحًا سياسيًا يُستخدم للتأثير على الرأى العام والتدخل فى الشئون الداخلية للدول.
4/1 الأمن السيبرانى كأولوية سياسية:
فى ظل هذا التحول، تجاوز الأمن السيبرانى مفهوم حماية الأنظمة المعلوماتية ليغدو دعامة محورية للأمن القومى والسيادة الرقمية. فالدول لم تعد فى مواجهة التهديدات التقليدية فحسب، بل تخوض "حروبًا رقمية" متعددة الأوجه، من التجسس الإلكترونى إلى تعطيل الخدمات وحملات التضليل الممنهجة، وكلها تستهدف تقويض الاستقرار السياسى والاجتماعى للدول.وفى هذا السياق، تُمثّل السيادة الرقمية مفهومًا محوريًا، إذ يشير هذا المصطلح إلى قدرة الدولة على التحكم فى بياناتها، وتنظيم استخدامها، وحمايتها من التدخلات الأجنبية الخارجية. كما تُعدّ البنية التحتية الرقمية هدفًا حيويًا يتطلب حماية خاصة من أى اختراق أو تخريب.
4/2 الفجوات التشريعية فى البيئة الرقمية:
رغم الأهمية المتزايدة للأمن السيبرانى فى البيئة الرقمية، لا يزال الإطار التشريعى الدولى يُعانى من فجوات واضحة، حيث تغيب الاتفاقيات المُلزِمة التى تنظم العلاقة بين التكنولوجيا والسياسة بشكل شامل. هذا الفراغ يُتيح المجال لممارسات تهدد السيادة والحقوق، مثل: التدخل الأجنبى فى الشئون الداخلية، أو استخدام البيانات لأغراض التأثير السياسى غير المشروع. وفى هذا السياق، تبرز الحاجة إلى أطر تشريعية محلية ودولية تضمن الاستخدام المسئول للتكنولوجيا، وتلتزم بمبادئ الشفافية وحقوق الإنسان والنزاهة. ويتقاطع هذا التوجه مع ما نص عليه العهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وتحديدًا فى مادته (19)، التى تؤكد أن لكل إنسان حقًا أصيلًا فى حرية التعبير، بما فى ذلك حرية التماس المعلومات والأفكار وتلقّيها ونقلها إلى الآخرين، عبر أى وسيلة يختارها، دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب، أو مطبوع، أو فى قالب فنى، أو بأية وسيلة أخرى يختارها.وهو ما يعزز ضرورة تنظيم بيئة رقمية تضمن احترام هذا الحق، وتوفر له الحماية القانونية الكافية.
4/3 الإطار القانونى للأمن السيبرانى فى مصر:
فى السياق المصرى، أدركت الدولة مبكرًا أهمية تعزيز البنية التشريعية لمواجهة التهديدات الرقمية، وقد صدر عدد من القوانين ذات الصلة، من أبرزها:
- القانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات:
يُعد هذا القانون الإطار الأساسى لمكافحة الجرائم الإلكترونية فى مصر، إذ يُحدّد الجرائم والعقوبات المتعلقة بالاختراق، وتعطيل الأنظمة، والاحتيال الإلكترونى، ونشر المحتوى غير القانونى، وغيرها من التهديدات الرقمية.
- القانون رقم 151 لسنة 2020 بشأن حماية البيانات الشخصية:
ينظّم هذا القانون جمع البيانات الشخصية ومعالجتها وحمايتها داخل مصر، ويهدف إلى ضمان خصوصية الأفراد بما يتماشى مع المعايير الدولية فى هذا المجال.
§ مشروع قانون تداول المعلومات:
يُعد مشروع قانون تداول المعلومات خطوة تشريعية مهمة نحو تنظيم الحق فى الوصول إلى المعلومات داخل مؤسسات الدولة، بما يعزز من الشفافية والمساءلة. يهدف المشروع إلى وضع إطار قانونى يُنظّم تداول المعلومات بين المواطنين والجهات الحكومية، من خلال تحديد الحقوق والالتزامات، وضمان التوازن بين إتاحة المعلومات وحماية السرية والأمن المعلوماتى.
- المادة (68) من دستور جمهورية مصر العربية لسنة 2014، المعدل فى 2019، تنص على ما يلى:
المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة حق تكفله الدولة لكل مواطن، ويُلتزم المسئول العام بإتاحتها وتمكين المواطنين من الحصول عليها بشفافية.
- الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان (2021–2026):
أبرزت الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان أهمية الحق فى تداول المعلومات كأداة لضمان الشفافية والمساءلة ودعم المشاركة المجتمعية. وأكدت ضرورة إصدار قانون ينظم هذا الحق، وتفعيل النشر الاستباقى للمعلومات العامة، مع مراعاة التوازن بين حرية المعرفة ومتطلبات الأمن القومى. كما دعت إلى تدريب العاملين الحكوميين على آليات الإفصاح، وتعزيز البنية الرقمية لتسهيل الوصول إلى المعلومات، بما يعكس التزام الدولة بدستورها وبمبادئ الحوكمة الرشيدة.
وعلى الرغم من أهمية هذه القوانين، فإن البيئة الرقمية لا تزال تفتقر إلى تشريعات شاملة تُنظّم الأمن السيبرانى فى بُعده السياسى، لا سيما فيما يتعلق بالتدخلات الأجنبية، وحملات التضليل، والتأثير فى الانتخابات. ومن هنا، تبرز الحاجة الملحّة إلى تطوير سياسة وطنية شاملة للأمن السيبرانى تأخذ فى الاعتبار الأبعاد السياسية، إلى جانب تحديث المنظومة التشريعية لمواكبة التحديات المعاصرة.
5- المحور الخامس- رؤية مستقبلية لصانعى القرار السياسى فى ظل التكنولوجيا:
لم يعُد صانعو القرار يعملون بمعزلٍ عن التقنيات الحديثة، بل بات لزامًا عليهم توظيفها لفهم تعقيدات الواقعَين المحلى والدولى، واستباق الأزمات، واتخاذ قرارات تتّسم بمزيدٍ من الدقة والفعالية. وتُبرز الرؤية المستقبلية ضرورة تبنّى نماذج حوكمة ذكية تعتمد على البيانات فى التنبؤ بالمتغيرات السياسية والاجتماعية، إلى جانب تطوير أنظمة دعم القرار القادرة على محاكاة سيناريوهات سياسية متعددة.
كما تتطلّب المرحلة المقبلة تعزيز المهارات الرقمية لدى صانعى القرار، وإعادة النظر فى هيكلية مؤسسات صنع القرار، بما يضمن تكاملها مع بيئة تكنولوجية ديناميكية تتطلّب تفاعلًا سريعًا ومرونةً فى الاستجابة. وفى هذا السياق، تكتسب المنظومة التعليمية بُعدًا استراتيجيًا من خلال دمج مقررات الذكاء الاصطناعى، وتحليلات البيانات، والمواطنة الرقمية ضمن المناهج الجامعية، على أن تُدرّس هذه المقررات كمتطلبات تخرّج أساسية تسهم فى إعداد جيل من القادة والمختصين المؤهلين لمواجهة تحديات العصر الرقمى وصنع السياسات المستندة إلى المعرفة.
ومع تصاعد التهديدات السيبرانية، وتنامى تأثير الرأى العام الرقمى، تبرز حاجةٌ ملحّة لوضع أطرٍ تشريعية وأخلاقية تنظّم استخدام التكنولوجيا فى السياسة، وتضمن التوازن بين الكفاءة الرقمية والحفاظ على القيم الديمقراطية. إنّ الرؤية المستقبلية لا تقتصر على مواكبة التطورات فحسب، بل تستوجب قيادة هذا التحول من منظورٍ استباقى، يُعزّز قدرة الدول على تحقيق أمنها الوطنى، واستقرارها الداخلى، وترسيخ حضورها على الساحة الدولية.
6- المحور السادس- تحديات دمج التكنولوجيا فى صناعة القرار السياسى الدولي:
فى خضم هذا التحوّل الرقمى، تبرز تحديات جوهرية تتعلّق بكيفية دمج الأدوات التكنولوجية ضمن عملية اتخاذ القرار، بما يحقق الفعالية دون التفريط فى القيم والمبادئ الأساسية.
فبينما تعتمد الأدوات التقليدية فى صنع القرار على الخبرة البشرية، والحدس، والمعرفة التاريخية، ما يجعلها أكثر ارتباطًا بالسياقات الثقافية والسياسية، إلا أنها كثيرًا ما تُعانى من بطء الاستجابة، واحتمالية التحيز أو الخطأ البشرى. فى المقابل، توفّر التكنولوجيا إمكانيات هائلة لتحليل كمٍّ ضخم من البيانات خلال فترات زمنية وجيزة، وتُتيح اتخاذ قرارات مدعومة بالمعطيات، تتّسم بدرجة عالية من الدقة. غير أن هذه المزايا لا تخلو من إشكاليات، أبرزها: احتمال التحيز المعلوماتى. كما أن النظم التكنولوجية تفتقر إلى المرونة البشرية، مما يجعلها أحيانًا عاجزة عن موازنة المصالح المتباينة أو تقدير الأبعاد الأخلاقية والإنسانية. ويُضاف إلى ذلك تصاعد التهديدات الأمنية، يجعل هذه النظم عرضة للاختراق أو التلاعب، مما يحوّلها من أدوات داعمة إلى مصدر خطر استراتيجى.
وتتعمق التحديات مع بروز فجوة رقمية واضحة بين الدول، حيث تفتقر كثير من الدول النامية إلى البنية التحتية الرقمية والكوادر المؤهلة لتوظيف التكنولوجيا فى صنع القرار، مما يُكرّس تفاوتًا فى النفوذ السياسى والقدرة على إدارة الأزمات. كما يُثار جدل متزايد حول غياب الشفافية فى تصميم الخوارزميات المعتمدة على الذكاء الاصطناعى، لا سيما عندما يتم تطويرها من قبل جهات خاصة لا تخضع لرقابة مؤسسية أو مساءلة ديمقراطية.
ويُضاف إلى ذلك تحدٍّ خطير يتمثل فى الاعتماد الزائد على البيانات كمصدر وحيد لصناعة القرار، مما يؤدى إلى تهميش الأبعاد الإنسانية، والثقافية، والاجتماعية، ويُفضى أحيانًا إلى قرارات "تقنية" تفتقر للبُعد القيمى. كما أن صراع السيطرة على البيانات السيادية بات أحد ملامح السياسة الدولية المعاصرة، حيث تسعى بعض الدول والشركات للهيمنة على امتلاك المعلومات واستغلالها استراتيجيًا، مما يهدد الاستقرار الرقمى والسياسى فى آنٍ واحد.
خاتمة:
إنّ ما يفرضه العصر الرقمى من واقع جديد لا يُتيح لصناع القرار رفاهية التردد أو التمسك بالأطر التقليدية، بل يُحتّم عليهم الانتقال من منطق "الاستجابة" إلى منطق "الاستباق". فجوهر التحدى اليوم لا يكمُن فقط فى توظيف الأدوات التكنولوجية المتاحة، بل فى صياغة فلسفة سياسية جديدة تُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والتقنية، بين السيادة والمعلومة، وبين السلطة والمعرفة.
وفى هذا السياق، تغدو التكنولوجيا اختبارًا مزدوجًا: فهى من جهة فرصة تاريخية لتعزيز كفاءة المؤسسات وتحقيق شفافية أوسع فى العمل السياسى، ومن جهة أخرى تهديدٌ كامن فى حال غياب الرقابة، وضعف البنية التشريعية الحاكمة لاستخدامها، لذا فإن الرهان الحقيقى ليس فى من يملك التكنولوجيا، بل فى من يُحسن توجيهها ضمن رؤية استراتيجية متكاملة، تُوازن بين ضرورات التطور وحدود المسئولية.
إن المستقبل السياسى للدول لن يُقاس فقط بقوة جيوشها أو ثرواتها الطبيعية، بل بقدرتها على بناء أنظمة معرفية مرنة، ووعى سياسى رقمى يُدرك كيف تُصنع القوة فى زمن "الشفرة" و"البيانات"، وكيف تُحمى السيادة فى فضاء رقمى بلا حدود.
أ.د. شحاتة غريب شلقامي أ.م.د. عمرو حسن فتوح
أستاذ القانون المدني أستاذ تكنولوجيا المعلومات المساعـد
نائب رئيس جامعة أسيوط لشئون التعليم والطلاب سابقًا رئيس قسم دراسات المعلومات – جامعة الوادي الجديد