تحليلات - مصر

مشروطيات الانكماش:| الأبعاد السياسية والمجتمعية للتقشف الاقتصادي في مصر

طباعة
لم تمثل حزمة القرارات الاقتصادية التقشفية التي أعلنتها الحكومة المصرية تحولا مفاجئًا في السياسات الاقتصادية المصرية، إذ إن الخطاب الانتخابي للرئيس عبد الفتاح السيسي منذ ترشحه للرئاسة كان يتبني نهجًا واقعيًّا يقوم على تخفيض سقف توقعات المواطنين تجاه الدولة في ظل أوجه الاختلال الهيكلي التي أصابت بنية الاقتصاد المصري على مدار السنوات الثلاث التالية للثورة ما أدى لاستنزاف الموارد والاحتياطات النقدية، والاعتماد على الاقتراض الخارجي، وهو ما جعل قرارات خفض الإنفاق الحكومي بمثابة "العلاج المر" على حد تعبير الرئيس السيسي.
 
 بيد أن هذه السياسات -وإن كانت تحقق الاتزان الاقتصادي- تتضمن تكلفة باهظة للغاية سياسيًّا واجتماعيًّا في ظل ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وتردي الخدمات العامة، ما يجعل تقديم منافع اجتماعية تخفف من وطأة هذه السياسة الاقتصادية، والتوازن في توزيع الأعباء مجتمعيًّا وجغرافيًّا، وكبح تداعياتها السلبية - أحد أهم مشروطيات تمرير هذه القرارات سياسيًّا.
 
سياسات الانكماش الاقتصادي
 
اتخذت الحكومة المصرية منذ مطلع يوليو الجاري عدة قرارات اقتصادية متتابعة ذات طابع انكماشي هدفها خفض الإنفاق الحكومي، وتقليص عجز الموازنة، وتضمنت ما يلي: 
 
1- خفض عجز الموازنة: حيث رفض الرئيس السيسي قبول النسخة الأولى من موازنة العام المالي 2014 – 2015 لأن عجز الموازنة تجاوز 300 مليار جنيه، وتجاوز إجمالي الدين الداخلي والخارجي حوالي 2.1 تريليون جنيه، ومن ثم قلصت الحكومة من الإنفاق بمعدل 18 مليار جنيه ليصل إلى حوالي 789 مليار جنيه مقارنة بحوالي 807 مليارات جنيه، ورفعت من الإيرادات لحوالي 549 مليار جنيه في مقابل 517 مليار جنيه في الموازنة السابقة، وفي المحصلة النهائية تم تخفيض عجز الموازنة إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي، أي إلى 240 مليار جنيه مقابل 12% في العام المالي السابق.
 
وتمثلت أبرز تعديلات الموازنة في خفض دعم الطاقة بنحو 41 مليار جنيه، ليكون بحدود 100 مليار جنيه، كما تم خفض بند الأجور بنحو 1.2 مليار جنيه، مع وعد بإعادة هيكلة الأجور واستهداف تقليل عدد العاملين بالحكومة على مدار 15 عامًا، وكذلك تم خفض فوائد الديون بنحو 2.5 مليار جنيه، وإعلان استهداف خفض الدين العام على مدار السنوات الثلاث المقبلة ليبلغ ما بين 80% و85% من الناتج المحلي الإجمالي، بدلا من النسبة الحالية التي تقدر بـحوالي 93.7%.
 
2- فرض ضرائب جديدة: حيث فرضت الحكومة المصرية حزمة ضريبية جديدة، تتمثل في تعديل الضريبة العقارية لتشمل المحلات التجارية التي تزيد قيمتها الإيجارية عن مائة جنيه شهريًّا بواقع 10% من الإيجار السنوي كل عام، والنسبة ذاتها على الوحدات السكنية المؤجرة التي تزيد قيمتها الإيجارية عن 24 ألف جنيه سنويًّا، وفرض ضريبة رأسمالية سنوية على الأرباح المحققة من البورصة (الربح الناتج من عملية بيع الأسهم)، وعلى التوزيعات النقدية بنسبة 10% فضلا عن ضريبة أخرى مؤقتة لمدة ثلاث سنوات تقدر بحوالي 25% على من يحققون أرباحًا تزيد على المليون جنيه سنويًّا، سواء كانوا أشخاصًا اعتباريين أو طبيعيين، وتوسيع نطاق ضرائب الدخل لتشمل المصريين المقيمين بالخارج.
 
أما آخر الضرائب التي فرضتها الحكومة المصرية فتضمنها القرار الجمهوري الصادر في 6 يوليو الجاري الذي فرض ضرائب على السجائر والكحوليات لتحصيل ما يعادل 6 مليارات جنيه من إجمالي 9.4 ملايين مدخن يمثلون حوالي 17% من إجمالي السكان وفق إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
 
3- تقليص دعم الطاقة: تمثل القرار الأكثر إثارة للجدل في قرار الحكومة المصرية رفع أسعار الوقود بنسب تتراوح بين 87% لبنزين 80 و63% بالنسبة للسولار و175% للغاز الطبيعي و40% لبنزين 92 و7% لبنزين 95، فضلا عن اتجاه لرفع كامل الدعم عن الوقود تدريجيًّا على مدار ثلاث سنوات، توازى ذلك مع رفع الحكومة لأسعار شرائح استهلاك الكهرباء بنسب تتراوح بين 15% و20% تمهيدًا لإنهاء دعم الكهرباء نهائيًّا خلال 5 سنوات.
 
وفي السياق ذاته أصدر رئيس الوزراء قرارًا بتحديد سعر بيع طن المازوت ليصل إلى 1400 جنيه للصناعات الغذائية، و2300 جنيه لشركات إنتاج الكهرباء، و2250 جنيه لشركات صناعة الأسمنت، و1950 جنيه لقمائن الطوب والاستخدامات الأخرى. 
 
4- إعادة هيكلة الدعم السلعي: حيث عدلت الحكومة منظومة الدعم لتشمل الاختيار من بين 20 سلعة مضافة على البطاقات التموينية، وتحديد نصيب الفرد من الدعم بحوالي 15 جنيهًا شهريًّا بعدما كانت تصل لحوالي 18 جنيهًا وفق النظام السابق، ما يعني تخفيض نصيب الفرد من الدعم التمويني بحوالي 17% وهو ما يتسق مع تقليص الحكومة لدعم السلع التموينية بحوالي 2.5 مليار جنيه بنسبة 7.3% عن الموازنة السابقة، ليصل إجمالي الدعم السلعي إلى حوالي 31.6 مليار جنيه مقابل 34.1 مليار جنيه قبل التعديل. 
 
اعتبارات الاتزان الاقتصادي:
 
يتفق أغلب المتخصصون في الاقتصاد أن تأجيل السياسات التقشفية لم يعد ممكنا نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية متمثلة في تراجع معدل النمو لنسبة لا تتجاوز 2% ووصول عجز الموازنة إلى 12% وارتفاع نسبة الديون إلى حوالي 93.7% من الناتج المحلي الإجمالي، وتراجع الاحتياطي من النقد الأجنبي إلى حوالي 16.68 مليار دولار بنهاية يونيو الفائت، وضعف معدلات الاستثمار التي لم تعد تتجاوز 16% من الناتج المحلي الإجمالي، فضلا عن تراجع عائدات بعض الأنشطة الرئيسية للاقتصاد المصري مثل السياحة التي انخفضت عائداتها في الربع من العام الجاري بحوالي 43% نتيجة انخفاض تدفق السائحين على مصر بنسبة 32% خلال تلك الفترة.
 
في المقابل أرجع الخبراء الاقتصاديون تقليص دعم الطاقة لعدة أسباب، أهمها أن مصر تحولت من دولة تنتج وتصدر مصادر الطاقة للخارج نتيجة وجود فوائض إلى مستورد للوقود بداية من عام 2006، ومستورد للغاز الطبيعي بداية من عام 2012 نتيجة تصاعد الطلب المحلي على الطاقة، ومن ثم تصاعد عبء دعم الطاقة على الموازنة ليتجاوز 14.5% من إجمالي الإنفاق الحكومي وأكثر من 10% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي.
 
يرتبط ذلك باستحواذ الشرائح مرتفعة الدخل على أكبر نسبة من فوائد دعم الطاقة، حيث يستند عدد من الخبراء الاقتصاديين إلى تقديرات إحصائية تؤكد أن أغنى 20% من سكان الحضر يستحوذون على 33% من دعم الطاقة مقابل 3.8%
المشكلة-الاقتصادية----داخلي-2
لأفقر 20% من السكان، كما أن توزيع المستفيدين من دعم الطاقة تتصدره الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، ويتضمن فئات لا تستحق الدعم، مثل مستخدمي السيارات الخاصة، والفنادق، والمطاعم.
 
على مستوى آخر فإن دعم الطاقة يقوض من محفزات ترشيد الاستهلاك، سواء بالنسبة للأفراد أو الصناعات كثيفة استخدام الطاقة مثل الأسمنت والحديد والأسمدة التي تحقق أرباحًا لا تنعكس في صورة تخفيض في الأسعار نتيجة الطابع الاحتكاري غير التنافسي لإنتاج تلك السلع، ناهيك عن أن الإنفاق على دعم الطاقة يقلص من مخصصات الإنفاق على التعليم والصحة والخدمات. 
 
التكلفة الاجتماعية للتقشف: 
 
على الرغم من الوفورات الاقتصادية المتحققة نظريًّا من سياسة التقشف الاقتصادي، والحد من النفقات المتبعة من جانب الحكومة المصرية، فإنها تأتي متناقضة مع المعطيات الاجتماعية في ظل ارتفاع نسبة الفقر إلى حوالي 26.3%، وتصاعد معدل البطالة ليتجاوز حوالي 13% من المواطنين وفق البيانات الرسمية؛ إذ إن التركيز المتصاعد على الإجراءات التقشفية يمثل استكمالا لتحول اقتصادي تدريجي بدأ منذ عام 1974 من نموذج دولة الرعاية المركزية التي تقوم بتوظيف الموارد لسد مختلف احتياجات المواطنين وضبط التفاوتات الاجتماعية، باتجاه نموذج نيوليبرالي يقوم على الجباية، وتعزيز كفاءة استخراج الموارد لتحقيق الاتزان الاقتصادي، مع توفير الحد الأدنى من الدعم الاقتصادي للفئات الأكثر فقرًا، والاعتماد على المجتمع المدني في الإحلال محل مساحات الفراغ الناجمة عن انسحاب الدولة، وتشمل التداعيات الاجتماعية لإجراءات التقشف ما يلي:
 
1- انكماش الطبقة الوسطى: تشير دراسة هنري بنين ومارك جريسوفتش حول التداعيات الاجتماعية لسياسات التقشف الاقتصادي إلى أن تكلفة سياسات خفض الإنفاق الحكومي عادةً ما تتحملها الطبقة الوسطى الحضرية، خاصة من ذوي الدخول الثابتة غير القابلة للارتفاع، بينما تعاني بعض القطاعات المجتمعية من آثار مدمرة تشمل العمالة منخفضة المهارات، والمهاجرين الجدد إلى الحضر، والشباب حديثي التخرج قليلي الخبرة، وموظفي القطاع العام، وهو ما يؤدي لاتساع شريحة الفقر في المجتمع، خاصة في المناطق الطرفية الأكثر معاناة من التهميش، وانعدام الاتزان في عوائد التنمية.
المشكلة-الاقتصادية----داخلي-3
 
2- تصاعد التضخم: نتيجة تركز الارتفاعات الأكبر في أسعار مصادر حيوية للطاقة (مثل: السولار، والغاز الطبيعي) فمن المرجح أن تتصاعد تكلفة مختلف السلع والخدمات الأساسية، حيث تشير التقديرات الاقتصادية إلى أن معدلات التضخم قد ترتفع لنحو 13% خلال 6 أشهر بعد زيادة أسعار الوقود، يتوازى ذلك مع بوادر موجة ارتفاع أسعار، حيث أكد نقيب الصيادين بالسويس، أن أسعار بيع السمك ستزداد بنسبة تتراوح ما بين 30% إلى 50% عن سعرها الأصلي نتيجة الاعتماد الكبير على السولار في مختلف عمليات ومراحل قطاع الصيد، وهو ذات الأمر الذي أشار إليه رئيس شعبة الدواجن الذي أكد أن الأسعار سترتفع بنسبة 25%، ذات الأمر ينطبق على السلع الزراعية والحديد والأسمنت والأسمدة وقطاعات التشييد والبناء والاتصالات والنقل والمواصلات، حيث بدأت شركات النقل، التابعة لقطاع الأعمال العام، فرض زيادة رسمية على نقل السلع الغذائية الحرة بواقع 20% على الطن الواحد، ما سوف ينعكس على أسعار مختلف السلع تلقائيًّا.
 
3- الركود الاقتصادي: تؤثر البنية الريعية للاقتصاد المصري، واعتماده الرئيسي على الأنشطة الخدمية والصناعات التحويلية البسيطة، وافتقاده للنشاطات الإنتاجية - على قدرة القطاعات الاقتصادية على التكيف مع السياسات الانكماشية، حيث إن ارتفاعَ الأسعار، واستنزاف الدخول الثابتة للشرائح الأوسع نطاقًا من المصريين، قد تتسبب في إحجامهم عن الإنفاق الاستهلاكي، وهو ما يؤدي لانكماش سوق السلع الاستهلاكية والخدمات، وسيطرة الركود على التعاملات الاقتصادية، ومن ثمَّ التسبب في خسائر للشركات والمصانع الأقل في حجم نشاطها الاقتصادي، مما يؤدي إلى تصاعد الاحتكار، وسيطرة كبار المنتجين على قطاعات اقتصادية متعددة، مما يزيد من أثر ارتفاع الأسعار.
 
4- تزايد البطالة: بالإضافة لتأثير الركود على تراجع طلب القطاعات الاقتصادية المختلفة على العمالة، تدفع سياسات الانكماش الاقتصادي إلى تحول رأس المال من الصناعات المحلية المكلفة كثيفة العمالة (مثل: الصناعات الثقيلة، والنسيج) إلى الصناعات الأقل تكلفة القابلة للتصدير، ونتيجة لانخفاض قدرة العمالة على الحراك بين القطاعات الاقتصادية في مصر Intersectional Mobility من المرجح أن يؤدي التراجع في بعض القطاعات الاقتصادية إلى تصاعد في نسبة البطالة، ما لم تتدخل الحكومة لتحفيز الاستثمار من خلال تدشين مشروعات كبرى للحفاظ على مستوى الطلب على العمالة، خاصة منخفضة المهارات.
 
5- تصاعد مركزية القطاع الخاص: يؤدي تراجع الإنفاق الحكومي والسعي لتقليص فرص العمل بالقطاع العام؛ إلى تصاعد وزن القطاع الخاص في تحديد أسعار السلع والخدمات، وتحديد أجور العمل بما يحقق أقصى درجات الربحية، ولن تُثنِي مفردات الوطنية والتضامن والتكافل الغالبة على خطاب شاغلي السلطة في مصر، القطاعَ الخاص عن استغلال التحولات في السياسة الاقتصادية بالنظر إلى رشادة الخيارات الاقتصادية، ودافع الربح المتحكم في أنشطة مؤسساته، واتساع نطاق الاقتصاد الموازي غير الرسمي الذي لا يُمكن للحكومة التحكم في توجهاته، لأنها لا تملك بيانات كافية عن أنشطته، وهو ما يجعل تدخل الدولة لضبط توجهات القطاع الخاص أحد أهم محددات رفع العبء عن كاهل المواطنين محدودي الدخل.
 
محددات الحراك الاحتجاجي: 
 
لعل التساؤل الأكثر إثارة للجدل في الآونة الأخيرة يتمثل في مدى إمكانية أن تؤدي السياسات التقشفية وتداعياتها الاجتماعية واسعة النطاق إلى تحفيز موجة احتجاجية جديدة تؤدي إلى تصاعد عدم الاستقرار بالتوازي مع تزايد نشاط التنظيمات الإرهابية والتفجيرات وأنماط العنف المصاحب لاحتجاجات مؤيدي جماعة الإخوان المسلمين.
 
وعلى الرغم من الافتراضات النظرية التي تربط بين ارتفاع التكلفة الاجتماعية لسياسات التقشف الاقتصادي وتفجر اضطرابات سياسية واسعة النطاق على غرار انتفاضة الخبز في مصر عام 1977 والاضطرابات المماثلة التي شهدتها دول أوروبية تبنت سياسات تقشفية منذ عام 2012 مثل اليونان وإسبانيا والتظاهرات المعارضة لإجراءات تخفيض دعم الطاقة في دول الإقليم خلال الأعوام التي تلت الثورات العربية مثل الأردن والمغرب والسودان - فإن تسبب إجراءات الانكماش في الإنفاق الحكومي في تصاعد عدم الاستقرار السياسي يرتبط بعدة عوامل أهمها ما يلي: 
 
1- تماسك النخبة: كلما خلت النخبةُ الحاكمة من الانشقاقات والاتجاهات المتعارضة وصراعات السلطة؛ تصاعدت قدرة النظام الحاكم على فرض تكلفة سياسات التقشف على المواطنين، ومن المفترض أن يؤدي الاصطفاف والتعاضد بين شاغلي السلطة السياسية والنخب السياسية المدنية وقطاعات واسعة من الموطنين الناجم عن مواجهة الإرهاب والتصدي إلى محاولات جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها للعودة للسلطة والتحديات الخارجية المتصاعدة لتمرير الإجراءات التقشفية دون أن يتسبب في تصاعد عدم الاستقرار السياسي.
 
بيد أن إقدام السلطة الحاكمة على فرض التزامات ضريبية ومالية على بعض النخب المركزية مثل رجال الأعمال قد يؤدي إلى تصدع هذا التماسك المرحلي، خاصةً في ظل امتلاك أغلب رجال الأعمال وسائل إعلامية خاصة قادرة على تشكيل توجهات الرأي العام، يرتبط ذلك باجتماع الرئيس السيسي برجال الأعمال في 9 يوليو الجاري، وبث رسائل طمأنة حول عدم اعتزامه الإضرار بنشاطهم الاقتصادي، أو حرمانهم من أرباحهم، أو إجبارهم على التبرع للاقتصاد المصري.
 
2- تنظيم القطاعات المتضررة: حيث إن برامج التقشف الاقتصادي إذا ما ارتبطت بتقليص منافع قُوى مؤثرة في المجتمع ذات هياكل تنظيمية قادرة على الضغط على السلطة تتصاعد احتمالات عدم الاستقرار، ومن أهم القطاعات الأكثر تنظيمًا النقابات المهنية والعمالية والبيروقراطية الحكومية، وفي ظل التوجهات الحكومية بالتصدي الحاسم للاحتجاجات الفئوية وضعف الهياكل النقابية والمهنية نتيجة تسييسها وتصدعها على إثر سقوط حكم الإخوان المسلمين، فمن غير المرجح أن تتمكن هذه النقابات من الضغط الاحتجاجي على الحكومة لإثنائها عن تمرير إجراءات تقشفية جديدة.
 
 إلا أن بعض الفئات المؤثرة قد تستعصي على تطبيق هذه الإجراءات، خاصةً التي قد تتضرر من فرض الحد الأقصى للأجور مثل بعض القيادات والمتخصصين في قطاعات الاتصالات والبترول، وقطاع من العاملين في المؤسسات المصرفية، وبعض المستشارين في مؤسسات حكومية مثل هيئة قضايا الدولة ومجلس الدولة، وهو ما قد يُثير سخطًا شعبيًّا نتيجة عدم التوازن في توزيع تكلفة الإصلاح الاقتصادي.
 
3- ثبات القيادة السياسية: يؤدي حسم القيادة السياسية وقدرتها على فرض إجراءات التقشف إلى قدرة النظام على احتواء موجات عدم الاستقرار السياسي، حيث يعتمد الرئيس السيسي على خطاب شعبوي يقوم على المكاشفة، وتقاسم الأعباء، وتوظيف رسائل مثل أن "الخطر يواجهنا جميعا" وأن "إنقاذ الوطن يفوق اهتمامه بالحفاظ على شعبيته" ووجود "عدو داخلي يحاول هدم الدولة باسم الدين" واستدعاء خبرات اقتصاد الحرب الذي تحمله الشعب المصري خلال الحروب المصرية الإسرائيلية، وتوجيه رسائل أخرى لاستنهاض القادرين ماديًّا، والتحذير من الانتهازية والاستغلال، يُضاف إلى ذلك استناد السيسي إلى دعم المؤسسة العسكرية، وتضامن مؤسسات الدولة في دعم سياسات الحكومة.
 
4- الاعتراض الانتخابي: يؤدي وجود انتخابات برلمانية مرتقبة لتفضيل مختلف القوى والتيارات السياسية المعارضة لتوجهات الحكومة الاقتصادية لاستثمار التداعيات الاجتماعية السلبية لسياسات التقشف لتعزيز فرص فوزها بالأغلبية البرلمانية، ومن ثم عرقلة وتحجيم السياسات الاقتصادية الحكومية دون تحمل تكلفة الحراك الاحتجاجي في ظل تطبيق قانون التظاهر على الناشطين السياسيين، وفي ظل تفكك وضعف الأبنية والهياكل الحزبية القادرة على الاستحواذ على ثقة الناخبين وتخصيص نسبة 77% من مقاعد البرلمان للنظام الفردي، فمن غير المرجح أن تُثمر الآلية الانتخابية عن ضغوط قوية على السلطة التنفيذية لمنع مزيد من إجراءات التقشف الاقتصادي.
 
ملاحظات ختامية:
 
على الرغم من المنافع الاقتصادية المتحققة من فرض سياسات التقشف، فإنها لا يمكن اعتبارها سوى معالجة جزئية مؤقتة لا تضمن تصحيحًا مستديمًا لمكامن الاختلال في الاقتصاد الوطني، فالتفاوت بين أسعار الوقود -على سبيل المثال- سيؤدي إلى زيادة الضغط على المصادر الأقل في التكلفة، مما يؤدي إلى خلق أزمات نقص الوقود، وتبديد جانب من المنفعة المتحققة من تقليص دعم الطاقة، ذات الأمر ينطبق على عدم توافر وسائل نقل عام ذات مستوى آدمي تدفع مالكي السيارات الخاصة للتخلي عنها، أو عدم مراعاة الحكومة لتوقيت فرض زيادة أسعار الطاقة في ظل الضغوط الاستهلاكية المصاحبة لشهر رمضان، والافتقاد لآليات ضابطة لارتفاع أسعار السلع والخدمات. 
 
يرتبط ذلك بالافتقاد لوجود قراءة متأنية لتوجهات الرأي العام حول سياسات ترشيد الإنفاق الحكومي، ففي استطلاع للرأي أجراه مركز بيت الحكمة للدراسات الاستراتيجية في أغسطس 2012، أكد غالبية المبحوثين أن سياسة الدعم الحكومي تفتقد للكفاءة، إلا أن حوالي 70% منهم لم يقبلوا بخفض الدعم كحل للمشكلة الاقتصادية، وتزيد هذه النسبة إلى 80% لدى المواطنين ذوي الدخل المنخفض، في المقابل لم تتجاوز نسبة من أيدوا اللجوء للمظاهرات والاحتجاجات ردًّا على تقليص الدعم آنذاك 15% من المبحوثين الأقل دخلا.
 
وإجمالا يمكن القول إن تطبيق السياسات التقشفية لا بد أن يقترن بعدة مشروطيات اجتماعية كي تحقق أهدافها الاقتصادية: أولها التوازن في توزيع الأعباء بحيث يتحمل ذوو الدخل المرتفع من سكان الحضر العبء الأكبر، في حين يتم توجيه سياسات تعويضية لمحدودي الدخل خاصة في المحافظات الطرفية الأكثر فقرًا. وثانيها يتمثل في العدالة والمساواة وعدم استبعاد بعض القطاعات والمؤسسات الأكثر تأثيرًا ونفوذًا من دفع تكلفة التحولات الاقتصادية. وثالثها يتمثل في تطوير آليات كفئة للرقابة على الأسواق والحد من ارتفاع الأسعار وسياسات هادفة لمنع الاحتكار. ورابعًا توجيه دعم نقدي مباشر للشريحة الأكثر فقرًا في المجتمع، والإسراع في تطبيق سياسات الحدين الأدنى والأقصى للأجور دون تمايزات قطاعية. وأخيرًا يجب أن تتدخل الدولة كمحفز للاقتصاد من خلال مشروعات تنموية عملاقة، وتوجيه ما يتم توفيره من نفقات لإصلاح التعليم الأساسي والتعليم الفني والارتقاء بالبنية التحتية لمعالجة مكامن الخلل الاجتماعي.
طباعة

تعريف الكاتب

محمد عبد الله يونس

محمد عبد الله يونس

مدرس مساعد في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة