كيف يفكر العالم

صراع البقاء:| الأمن الغذائي كمدخل لتفسير الصراعات السياسية

طباعة

عرض: د. مروة نظير، خبيرة العلوم السياسية، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية.

تقع مسألة الأمن الغذائي في منطقة بينية من اهتمامات المعنيين بدراسات الأمن القومي من جانب، والدراسات الاقتصادية من جانب آخر، والعمل الإغاثي وحقوق الإنسان من جانب ثالث؛ حيث تثير العديد من القضايا التي تربط بين هذه الأبعاد على المستويين النظري والعملي. وعلى مدار السنوات الماضية فرضت قضايا المجاعات والأمن الغذائي نفسها على الأجندة العالمية مع تكرر الصراعات العنيفة في مناطق العالم المختلفة.

في هذا السياق يأتي تقرير عام 2013 (العدد الثالث من المجلد 14)من إصدارات برنامج التغير البيئي والأمن، وعنوانه "حصاد السلام: الأمن الغذائي، والصراع، والتعاون"، وهو من إعداد إيمي سيمونز. وهذا التقرير هو نتاج ورشة عمل الخبراء التي عقدها مركز وودرو ويلسون الدولي للباحثين في مارس 2012 تحت عنوان "تقييم الصلات: الغذاء، والزراعة، والصراع، وهشاشة الدول"، والتي جمعت عددًا من ممارسي السياسة والأكاديميين المعنيين الذي ينتمون لعدد من المؤسسات مثل: أوكسفام أمريكا، مكتب الأمن الغذائي، جامعة أوهايو، شبكة الإنذار المبكر بالمجاعات، فضلا عن بعض الاستشاريين المستقلين.

 وقد سعت ورشة العمل -ومن ثم التقرير- إلى إيجاد أجوبة على عدد من الأسئلة، لعل أبرزها: كيف تؤثر الصراعات على الأمن الغذائي؟ وكيف يساهم غياب الأمن الغذائي في تعميق الصراعات؟ وآليات التدخل للحد من النزاعات وغياب الأمن الغذائي.وما تداعيات وضع برامج للتنمية في هذا الصدد؟. بعبارة أخرى، يحاول هذا التقرير استكشاف الصلات المعقدة بين الصراع والأمن الغذائي، مسترشدًا بنتائج الدراسات والأدبيات السابقة، بهدف المساعدة في تطوير برامج أكثر فعالية لممارسي العمل السياسي في هذا الصدد.

ماهية الأمن الغذائي

وفقًا للتقرير فإن مفهوم الأمن الغذائي يتضمن أبعادًا أكثر تعقيدًا من مفهوم "الجوع"، فهو يتضمن ليس فقط كميات المواد الغذائية التي يحصل عليها الأفراد، بل يشمل كذلك آليات إنتاج ونظم تسويق الغذاء التي تقرر تكلفته، وتشكل من ثم حدود قدرة الأفراد على اختيار الغذاء، كما يُعنى هذا المفهوم بتوفر الغذاء في المستقبل، بالإضافة إلى توفره في الوقت الراهن.وعموما حدد التقرير مؤشرات أربعة لتحقيق الأمن الغذائي، هي:

 - توفر الغذاء: بمعنى كفاية إمدادات المواد الغذائية خلال الإنتاج و/ أو التجارة.

- الوصول للغذاء: بمعنى قدرة الأفراد على شراء الغذاء من الأسواقِ أو قدرتهم على إنتاجه بأنفسهم.

- استخدام الغذاء: بمعنى قدرة النظام الغذائي على تلبية كل الحاجات الفسيولوجية لضمان حياة صحية.

- الاستقرار: بمعنى القدرة على الوصول للغذاء في جميع الأوقات، في كل فصول السنة، بالرغم من تغير الأسعار أو غيرها من العوامل الأخرى التي قد تؤثر على درجة توفر المواد الغذائية.

وهناك العديد من العوامل التي يمكن أن تؤثر سلبًا على الأمن الغذائي من قبيل: الطقس السيئ، وارتفاع أسعار النقل، وفقدان مصادر الدخل، وانتشار الأمراض. وعمومًا يغيب الأمن الغذائي عندما لا تكون لدى الأفراد القدرة على الوصول إلى الغذاء الذي ينتجونه بأنفسهم، أو عندما تنخفض كمية وجودة الطعام المتوفر لهم؛ أو عندما لا يوفر لهم النظام الغذائي القدر الكافي من المواد اللازمة لحياة نشيطة وصحية. وقد يعد غياب الأمن الغذائي أمرًا عاديًّا، كما قد يصل إلى درجة حادة تهدد الحياة.

 ثنائية الأمن الغذائي والاستقرار السياسي

تشهد الجماعة البحثية والسياسية تزايدًا في اهتمام العلماء وصناع القرار بالتأثير المحتمل لأسعار الغذاء العالمية على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وذلك منذ عام 2008، وهو العام الذي حدثت فيه الزيادات السريعة في الأسعار العالمية للحبوب الرئيسية، وعلى الرغم من أن أسعار الحبوب العالمية هبطت مرة أخرى بنهاية هذا العام، وظلت منخفضة نسبيًّا في عام 2009؛ إلا أن مستويات الأسعار عاودت الارتفاع في عامي 2010-2011 لتفوق ما كانت عليه في ذروتها في عام 2008، واستمرت في الارتفاع مرارًا وتكرارًا إلى مستويات قياسية أدت لإثارة موجات من الاحتجاج على نحو ساعد في تفشي الاضطرابات المدنية في أكثر من 40 بلدًا على مستوى العالم.

ففي سبتمبر 2010 اندلعت أعمال شغب من قبل المواطنين في مابوتو بموزمبيق إثر قرار الحكومة برفع أسعار الخبز، وقد أسفرت جهود الحكومة للسيطرة على الحشود المتظاهرة إلى وقوع العديد من الوفيات والإصابات. أما في عام 2011 فقد قررت بعض الحكومات في الشرق الأوسط تخفيض دعم الخبز الذي يعد عنصرًا أساسيًّا بالنسبة لغالبية سكان هذه المنطقة، ومن ثم فقد أنحى كثيرون باللائمة على هذا القرار، مؤكدين أنه يعد -ولو جزئيًّا- سببًا للانتفاضات الشعبية فيما عرف بـ"الربيع العربي".

واستنادًا إلى ذلك يشير التقرير إلى وجود العديد من الروابط بين ارتفاع أسعار المواد الغذائية والجوع من جهة وعدم الاستقرار السياسي والصراعات من جهة أخرى. فعادةً تتجه غالبية التحليلات للربط بين ارتفاع أسعار المواد الغذائية، ومجموعة من المشكلات الاقتصادية الأخرى مثل البطالة، وعدم كفاية الدخل، أو السياسات الحكومية بصفة عامة.

وعلى الرغم من ذلك، هناك حالات أخرى تظهر وجود علاقة مباشرة بين غياب الأمن الغذائي وغياب الاستقرار السياسي، من ذلك مثلا الحالة الصومالية، فعندما فشلت الحكومة الوطنية أضحت المجاعات المتكررة وندرة الغذاء جزءًا من حلقة مفرغة من عدم الاستقرار.

ويمكن القول إن غياب الأمن الغذائي أصبح أحد أهم نتائج الصراع، وفي الوقت ذاته يُسهم في نشوب جولات متكررة من النزاع المسلح في هذا البلد. وفي حالات أخرى، مثل السودان، يعد نقص الغذاء والمجاعات من أهم النتائج المتوقعة للمواجهات والصراعات المسلحة التي تنشب.ومن خلال دراسات الحالة، يسعى التقرير للتعرف على العوامل التي يمكن من خلالها أن يؤثر غياب الأمن الغذائي في الصراعات، مشيرًا إلى "الصراعات الأفقية" الناتجة عن تنافس المجموعات المتناحرة للسيطرة على الموارد الطبيعية كالأرض أو الماء أو غيرها من الموارد البيئية الأخرى.

في حالات أخرى، تبرز "الصراعات الرأسية"، وذلك حينما تريد الحكومات الهيمنة على مواطنيها فتلجأ إلى تغييب الأمن الغذائي لإجبار المواطنين على الخضوع، وفي حالات أخرى تنتج الصراعات الرأسية نتيجة قيام المواطنين بالتمرد والاحتجاجات التي قد تكون عنيفة، في مواجهة الحكومة المركزية عندما يعتقدون أن هذه الحكومات تهدد مصالحهم وأمنهم الغذائي.

بعبارة أخرى تشير النظريات إلى وجود العديد من الطرق التي يمكن من خلالها أن يؤدي انعدام الأمن الغذائي إلى إذكاء الصراعات واستمرار اشتعالها؛ فالارتفاع غير المتوقع في أسعار المواد الغذائية يمكن أن يعد -في كثير من الأحيان- شرارة لبدء الاضطرابات. كما أن النزاع بين الجماعات المتنافسة للسيطرة على الموارد الطبيعية اللازمة لإنتاج الغذاء يمكن أن يزيد من فرص الصراع من ناحية أخرى. ويمكن أن يؤدي التفاوت في توزيع الموارد وعدم المساواة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين السكان إلى تفاقم المظالم، وزيادة إمكانية نشوب الصراع بين الجماعات المختلفة. وفي السياق ذاته تشير الأدبيات إلى أن حوافز الانضمام أو دعم الصراعات والثورات تشمل عددًا من الأسباب، منها الرغبة في حماية الأمن الغذائي.

من ناحية أخرى؛ يثبت الواقع أن نشوب الصراعات يؤدي إلى تفاقم انعدام الأمن الغذائي؛ إذ يمكن أن تقل كمية الغذاء المتاحة بسبب هذه الصراعات، كما تقل قدرة الأفراد على الوصول إلى الطعام، فضلا عن الحد من فرص توفير الرعاية الصحية، وزيادة عدم اليقين بشأن تلبية الاحتياجات المستقبلية للغذاء.وحتى في حالة انخفاض أعداد الوفيات التي تعزى مباشرة إلى الحرب، فإن نشوب واستمرار الحرب يؤثر سلبًا على صحة الإنسان؛ فالصراعات تدفع السكان المتضررين إلى اعتماد استراتيجيات المواجهة والتكيف التي تعني التقليل من استهلاك الغذاء، وسوء التغذية يجعل الأفراد -من جميع الفئات العمرية- أكثر عرضة للمرض والموت.

كما أن انعدام الأمن الغذائي الحاد الناجم عن الصراع يترك آثارًا قوية وطويلة الأمد على الأطفال؛لا سيما الذين يعاني نظامهم الغذائي خللا بسبب المجاعات قبل أن يتموا عامهم الثاني، حيث تتأثر قدراتهم المعرفية والجسدية بأضرار لا يكمن إصلاحها بعد ذلك.

 ميكانيزمات التدخل: الواقع والمطلوب

في ضوء حقيقة أن ما يقرب من 1.5 مليار شخص يعيشون في البلدان المتأثرة بالصراعات أو في دول هشة، وفي ظل حقيقة أن الصراع العنيف يمكن أن يعرقل أو حتى يعكس اتجاه عمليات التغيير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي؛ فإن العديد من المنظمات مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) قد وضعت منهجًا متكاملا للوقاية من النزاعات، وإدارتها، والتخفيف من آثارها.

وتخصص الوكالة الأمريكية للتنمية الدوليةما يقرب من 60% من إجمالي مواردها كمساعدات إنسانية وتنموية في البلدان الهشة والمتأثرة بالصراعات، وبالتالي فالوكالة لديها مصلحة كبيرة في تحقيق فهم أفضل لديناميات الصراع. وبما أن انعدام الأمن الغذائي يعد من أهم العوامل المتسببة في نشوب الصراعات، فإن جهود الوكالة الأمريكية في البلدان الهشة لتوفير الغذاء وتحسين فرص الحصول عليه وتحقيق استقرار الإمدادات الغذائية يساعد أيضًا في تقليل مخاطر الصراع.

ومنذ عام 2009، قدمت الولايات المتحدة ودول مجموعة الثماني(G -8) التزامات كبيرة لتحسين مستوى الأمن الغذائي على مستوى العالم؛ فتم تخصيص أكثر من 22 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات لتوسيع الاستثمارات في التنمية الزراعية.كما أطلقت الولايات المتحدة في عام 2010 مبادرة رائدة هي "الغذاء للمستقبل"، واتخذت الوكالة الأمريكية للتنمية الدوليةزمام المبادرة في تنفيذ البرنامج.وقد استهدف البرنامج في بدايته 19 دولة، شهدت 11 منها صراعًا عنيفًا في غضون السنوات العشر المنصرمة، فيما شهدت 5 منها على الأقل أعمال شغب بسبب مظاهرات الغذاء في عام 2008.

ويركز التقرير في قسم آخر منه على دراسات الحالة والنظريات الإمبريقية لاقتراح أنماط التدخلات الخارجية التي يمكن أن تحسن آليات التصدي للتحديات المرتبطة بغياب الأمن الغذائي والنزاعات، خصوصًا في الدول الهشة أو الضعيفة. ففي ضوء تعقد العوامل المرتبطة بالأمن الغذائي، ما زال من الصعب تحديد مستويات أو جوانب انعدام الأمن الغذائي التي من المرجح أن تسهم بشكل مباشر في نشوب الصراعات، أو الظروف التي يمكن أن تساعد في ذلك، ومن ثم يدفع التقرير بأنه من المفيد أن يتم تضمين المتغيرات المتعلقة بالأمن الغذائي في نظريات الصراع، وذلك بهدف المساعدة في تحديد نمط التدخلات الخارجية المطلوبة للتخفيف من حدة انعدام الأمن الغذائي، ومنع نشوب الصراعات، مع التأكيد في الوقت ذاته على أن كل حالة تتطلب تقييمًا معمقًا لفهم ديناميكيات النزاع، والدور الذي يلعبه غياب الأمن الغذائي في تعميق الصراعات، فبدون مثل هذه التقديرات، يمكن أن يؤدي التدخل إلى جعل الواقع أسوأ بدلا من تحسين الأوضاع.

ولا شك في أن التكلفة البشرية والاقتصادية العالية المترتبة على الصراع وانعدام الأمن الغذائي تعد في حد ذاتها دافعًا للمنظمات الإنسانية والتنموية الدولية إلى التدخل من أجل الحد من غياب الأمن الغذائي في الدول الهشة والمجتمعات المتضررة من النزاع. ورغم ذلك فالتقرير يؤكد على أن الخبرات العملية تشير إلى أن زيادة فعالية جهود مكافحة غياب الأمن الغذائي قد تتطلب إعادة النظر في أنماط التدخل الذي تقوم به هذه المنظمات.

على سبيل المثال، يمكن تحسين فعالية وتأثير برامج التدخل من خلال تعديل مناهج التشغيل بما يحقق التكامل والاستمرارية بين الأعمال الإنسانية والتنموية. كما يمكن تركيز الدعم الخارجي على تعزيز عمل المؤسسات المهمة لتحقيق الأمن الغذائي، ومنع نشوب الصراعات في الدول الهشة. كما يمكن إشراك مؤسسات المجتمع المدني وشركات القطاع الخاص لدعم جهود المنظمات الإنسانية والتنموية العاملة على إنهاء الصراع وتحقيق الأمن الغذائي.

كما تثبت التجارب الواقعية أن الإجراءات التي تتم دون فهم كاف للأحداث المعقدة والمربكة المرتبطة بانعدام الأمن الغذائي والنزاع قد تفشل في تحقيق أهدافها، بل ومن الممكن أن تزيد الأمور سوءًا، لذا فثمة اتفاق واسع النطاق على ضرورة إجراء تقييمات سريعة على أرض الواقع لإرشاد التدخلات قصيرة الأجل التي تلبي الاحتياجات الحادة. وللخروج من دوامة العنف المتكرر وانعدام الأمن الغذائي، يجب أن يعقب إجراء هذه التقييمات السريعة القيام بمجموعة من التحليلات التي تقدم رؤية متكاملة حول أسباب ونتائج الصراع والعنف.

 توصيات التقرير

  اعتمادًا على بعض النتائج التي تظهر من التجارب المختلفة والتحليلات النظرية، يتوصل هذا التقرير إلى مجموعة من الملاحظات العامة والتوصيات التي تهدف إلى إرشاد مشاركة الوكالة الأمريكية للتنمية الدوليةفي هذا المجال مستقبلا، من أهمها:

- لدى الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية فرص فورية لتطبيق وتحسين توجيهاتها بشأن تنفيذ البرامج المتعلقة بالأمن الغذائي خلال الصراعات، وقد تمكنت الوكالة بالفعل من وضع برامج لتنسيق الأعمال الإنسانية والمساعدة التنموية في 16 دولة من بين البلدان الـ19 المستهدفة في البرنامج. ومع ذلك تحتاج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية إلى إيلاء مزيد من الاهتمام لمسألة تحديد أولويات العمل في البلدان الهشة والمتأثرة بالصراعات. فمن البلدان الـ10 التي تأتي في قمة مؤشر الدول الفاشلة، وحدها هاييتي تعتبر من الدول الأعضاء في برنامج "الغذاء من أجل المستقبل" وإن كانت كل هذه الدول تتلقى مساعدات أخرى من الوكالة. ولا شك في أن توسيع التزامات الوكالة إزاء هذه الدول الهشة أو الفاشلة يشكل خطورة على قدرتها في مجالات السياسات والتوظيف والتمويل.

- تمكنت الوكالة من بناء خبرتها الطويلة في مجال برامج الأمن الغذائي في المجتمعات المحلية، وذلك باستخدام مزيج من برامج الطوارئ والتنمية لتوسيع الجهود الشعبية في أوقات الصراعات وغيرها من السياقات الشبيهة. ولكن ما يزال على الوكالة توضيح الأهداف المستفادة من عملها بمجال الأمن الغذائي خلال النزاعات، ودعم إجراء البحوث الإضافية في هذا المجال، وتحسين آليات رصد الأمن الغذائي وجهود التقييم في المناطقالمتأثرة بالصراعات، والشراكة مع الآخرين لتعميق المعرفة حول العنف، والأمن الغذائي، والتنمية.

طباعة

تعريف الكاتب

إيمي سيمونز

إيمي سيمونز

خبيرة في شئون الأمن الإنساني