كيف يفكر العالم

إستراتيجية السعودية لتحييد الدور الإيراني في جنوب أسيا

طباعة

عرض: محمد بسيوني، باحث في العلوم السياسية

خلال العقود الماضية شكلت البيئة الإقليمية وسطا غير مستقر للسياسة الخارجية السعودية ينطوي على عدة تحديات تمحورت بالأساس حول طموحات إيران النووية المصحوبة برغبة في تعظيم النفوذ حتى ولو كان ذلك على حساب قوى إقليمية أخرى. وبالإضافة إلى المأزق الإيراني كان على النظام السعودي التعاطي مع التحولات التي شهدتها المنطقة عقب ثورات الربيع العربي، فضلا عن الخلافات التي باتت سمة رئيسية من سمات العلاقات الأمريكية السعودية حينما عارضت الرياض المواقف الأمريكية من ثورات الربيع العربي والملف النووي الإيراني.

ومثلت تلك المحددات محفزًا للمملكة السعودية لتطوير سياسة خارجية أكثر عمقًا مع منطقة جنوب آسيا، فهي من ناحية تحاول استخدام عمقها الديني وثروتها المادية والنفطية في تعزيز نفوذها بالمنطقة، ومن ناحية أخرى تطمح في تحييد الدور الإيراني بالمنطقة، وتوظيف علاقاتها مع الهند وباكستان في الضغط على طهران، وإضفاء رصيد داعم للموقف السعودي من قضايا رئيسية في الشرق الأوسط، وفي مقدمتها الحرب الراهنة في سوريا.

وتأسيسًا على تلك الدلالات، يتناول دانيال ماركي Daniel Markey من خلال مقاله "لعبة إستراتيجية جديدة للمملكة السعودية في جنوب آسيا" والمنشور على الموقع الإلكتروني لدورية المصلحة القومية - السياسة الخارجية السعودية تجاه الهند وباكستان، منطلقًا من الإطار البراجماتي كإطار حاكم للسياسة السعودية في هذا الشأن؛ حيث تعتقد الرياض أن توطيد علاقاتها مع كلتا الدولتين يمكن أن يخدم مصالحها الذاتية.

الصراع السعودي الإيراني على الهند:

سعت إيران عبر عقودٍ إلى تعزيز تواجدها في مناطق متفرقة لتقليل حدة الضغوط الغربية المفروضة عليها، وهكذا تحركت طهران باتجاه الهند في محاولة منها لكسب صداقة القوة العالمية الصاعدة، ففي عام 2000 اتفقت الدولتان على الاستثمار المشترك في ممر للنقل يربط ميناء شاباهار الإيراني المطل على بحر العرب بأفغانستان وآسيا الوسطى، وعقب ذلك تواترت الزيارات بين مسئولي الدولتين، ففي عام 2001 زار رئيس الوزراء الهندي آنذاك أتال بيهاري فاجبايي طهران، وفي عام 2003 زار الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي الهند ليكون المسئول الأبرز الحاضر في احتفال يوم الجمهورية الهندي، كما شهد العام ذاته توقيع الدولتين على إعلان نيودلهي المتضمن تعهدات متبادلة من الجانبين بتعزيز التعاون في مجالات التجارة والطاقة والدفاع، وذلك في إطار شراكة استراتيجية.

وقد أثارت تلك المعطيات -بحسب المقال- قلق النظام السعودي الحاكم، وهو ما دفعه إلى تطوير استراتيجية أكثر عمقًا في التعامل مع نيودلهي يُمكن من خلالها الخصم من نفوذ طهران المتنامي لدى الهند، وهكذا بدت العلاقات السعودية الهندية مرتبطة بعدد من الدلالات الجوهرية، أهمها:

أولا: ثمة اعتقاد في جنوب آسيا بأن السعودية يمكن أن تلعب دورًا جوهريًّا في استقرار المنطقة عبر التعاون في مجال مكافحة الإرهاب، وقد تجلى هذا المعطى كأحد المحددات الرئيسية للعلاقات السعودية الهندية، وتمت البرهنة على ذلك في مستهل عام 2012 عندما اعتقلت السلطات السعودية سيد زبيد الدين الأنصاري الملقب بأبي جندل والمنتمي لجماعة عسكر طيبة، وهو أحد المتهمين الرئيسيين في تخطيط وتنفيذ هجمات مومباي الإرهابية عام 2008 في الهند، وقامت بترحيله للهند، حيث تم إخضاعه للتحقيقات المكثفة.

ثانيًا: أفضى البزوغ الهندي خلال السنوات الماضية إلى تعزيز الرؤية السعودية المتقاربة مع نيودلهي، فهي من ناحية دولة باتت تمتلك مقومات ملحوظة للتأثير على الساحة الدولية، ومن ناحية أخرى ارتبط بزوغها الاقتصادي بتنامي استهلاكها للطاقة، وهو مدخل يمكن للرياض الاستناد عليه باعتبارها أحد أكبر منتجي النفط، ومن هذا المنطلق تسارعت وتيرة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين مع زيارة الملك عبد الله للهند في 2006، وزيارة رئيس الوزراء الهندي السابق مانموهان سينج للسعودية في 2010، وهي الزيارة التي تضمنت الإعلان عن الشراكة الاستراتيجية بين الدولتين.

وارتبط بهذه العلاقات الدبلوماسية تقدم على مستويين مهمين، أحدهما المستوى الدفاعي، حيث تم التوقيع على اتفاق للتعاون الدفاعي بين الدولتين في فبراير 2014، والآخر التبادل التجاري، إذ إن المملكة السعودية تزود الهند بنحو خمس وارداتها من النفط، وعلى الطرف المقابل كانت العلاقات التجارية بين الهند وإيران تتأثر كثيرًا، فقد انتقلت إيران من المرتبة الثالثة إلى السابعة في قائمة كبار موردي النفط للهند، وبالرغم من ذلك لا يتوقع ماركي إمكانية حدوث قطيعة في العلاقات الإيرانية الهندية، خاصة مع المصالح المشتركة التي تجمع الدولتين.

ثالثًا: بعيدًا عن مؤشرات التقارب بين الرياض ونيودلهي، يرى ماركي أن الهند لا تزال لديها بعض التخوفات تجاه توجهات المملكة السعودية، لا سيما تلك المتعلقة بدعم الجماعات السلفية بالمنطقة، بما في ذلك الهند التي يتواجد بها نحو 10% من مسلمي العالم، فضلا عن العلاقات التاريخية التي تجمع الرياض بالمؤسسات الأمنية الباكستانية، والتي ستظل مصدرًا للانزعاج الهندي.

الرياض وإسلام أباد.. علاقات تاريخية:

يُقدم التاريخُ بُعدًا هامًّا في العلاقات بين الرياض وإسلام أباد التي توطدت بصورة كبيرة خلال حقبة الستينيات من القرن الماضي حينما قامت باكستان بإرسال مدربين عسكريين إلى المملكة السعودية، وخلال عقدي السبعينيات والثمانينيات تم إرسال آلاف القوات الباكستانية (يُقدر عددها بـ20 ألفًا) لتعزيز الدفاعات الداخلية والخارجية بالسعودية، وفي المقابل قدمت السعودية لباكستان مساعدات مالية سنوية تُقدر بمليار دولار على مدار عقد الثمانينيات.

ويُضيف ماركي أن الحرب الأفغانية مثلت فرصة مواتية لتكريس التحالف الثنائي بين الدولتين؛ حيث شهدت تلك الفترة تعاونًا بين الرياض وواشنطن لتحويل ملايين الدولارات للجهاديين الأفغان في حربهم ضد الاتحاد السوفيتي، وكانت أجهزةُ المخابرات الباكستانية الوسيط الذي يتم عبره نقل تلك المساعدات، ولم ينتهِ التعاون السعودي الباكستاني بخروج القوات السوفيتية من أفغانستان، وتوقف الدعم الأمريكي للتيارات الجهادية هناك؛ حيث استمرت الدولتان في دعمهما المشترك لبعض الفصائل داخل أفغانستان -وفي مقدمتها حركة طالبان- خلال الحرب الأهلية بأفغانستان في عقد التسعينيات، وحتى عندما أجرت باكستان تجارب نووية عام 1998 لم يتوقف الدعم السعودي لإسلام أباد، بل على العكس قامت بضخ كميات كبيرة من النفط لباكستان وصلت إلى 50 ألف برميل من النفط يوميًّا، وهو ما ساهم في تخفيف حدة الضغوط الدولية المفروضة على باكستان آنذاك.

بيد أن هذا المنحى من العلاقات بين الدولتين لم يستمر على نفس الوتيرة، فقد تراجعت المساعدات السخية التي كانت تقدمها المملكة السعودية بشكل ملحوظ خلال السنوات الخمس الأولى (2008 - 2013) من الحكم المدني بعد رحيل برويز مشرف عام 2008؛ حيث اتسمت تلك الفترة بفتورٍ في العلاقات الثنائية نتيجة لانعدام الثقة بين النظام السعودي والرئيس الباكستاني آصف علي زرداري، والاعتقاد السائد لدى الرياض بأن زرداري أقل ولاء للمملكة مقارنة بالقيادات العسكرية التقليدية، وبالتالي فإن رحيل زرداري عن الحكم في 2013 أعاد العلاقات بين الدولتين إلى طبيعتها.

وفي إجابة له عما تتوقع المملكة السعودية الحصول عليه من باكستان، يفترض ماركي أن ثمة قضيتين جوهريتين تعول عليهما الرياض كثيرًا، أولهما الحصول على الدعم الباكستاني في الحرب الدائرة في سوريا، والموقف السعودي الرافض لبقاء نظام الأسد، وقد بدت مؤشرات هذا الدعم الباكستاني في أعقاب زيارة ولي العهد ووزير الدفاع السعودي سلمان بن عبد العزيز لإسلام أباد في فبراير الماضي؛ حيث أعربت باكستان في بيان مشترك عن تأييدها لأهداف السعودية بتشكيل هيئة للحكم الانتقالي في سوريا، وسحب كافة القوات الأجنبية من سوريا (خاصة الإيرانية)، ناهيك عن التقارير التي تتحدث عن مشاركة ضباط باكستانيين في تدريب الجماعات المعارضة السورية، وشراء السعودية أسلحة باكستانية لدعم المعارضة السورية.

وتتصل القضية الثانية بالتعاون النووي الذي يرتهن بالتخوفات السعودية من الطموحات النووية الإيرانية. صحيح أن الدولتين تحاولان إنكار أي تعاون بينهما في هذا الشأن، إلا أن الرياض توظف ورقة باكستان لإرسال رسالة للغرب وإيران بأنها ستكون قريبة من الحصول على التكنولوجيا النووية عبر باكستان في حال تخطت طهران العتبة النووية.

ويَعتبر ماركي أن المضي قدمًا في كلتا القضيتين سينطوي على تحديات أمام صانع القرار الباكستاني يتعين عليه التعامل معها، وفي مقدمتها إمكانية انتقال التنافس السعودي الإيراني إلى الداخل الباكستاني عبر صبغة طائفية تهدد الوحدة الداخلية، خاصة أن الدولة لا تزال تعاني من آثار الأحداث الطائفية التي وقعت بين السنة والشيعة عام 2013 وأدت إلى مقتل 650 شخصًا، وإصابة أكثر من 1100 آخرين.

رؤية أمريكية:

يعتقد ماركي أن واشنطن يتعين أن تأخذ في اعتبارها منطقة جنوب آسيا كقضية محورية في أي حوارات مستقبلية مع القيادة السعودية؛ حيث يبدو أن الرياض مصرة على تعزيز تواجدها هناك، وهو ما يفرض على واشنطن التعاطي مع الموضوع من منظور براجماتي بحت يعطي الأولوية لحسابات المكاسب والخسائر، وبالتالي يجب على الإدارة الأمريكية إدراك مدى أهمية وخطورة الطموحات النووية الإيرانية بالنسبة للمملكة السعودية.

وفي هذا الصدد سيكون على الولايات المتحدة أن تأخذ إمكانية التعاون النووي السعودي الباكستاني على محمل الجد، والتمهيد لمثل هذا السيناريو من خلال التأكيد على كلا الطرفين بأن نقل التكنولوجيا النووية الباكستانية للسعودية لن يكون مقبولا إلا في حالة اجتياز طهران العتبة النووية، وفي حال حدوث ذلك يلزم الحفاظ على الإجراءات الكفيلة بتأمين سلامة المواد النووية أثناء عملية النقل، وبعد دخولها إلى المملكة السعودية.

وعلى صعيد آخر، يمكن أن توظف واشنطن سياسة الرياض في جنوب آسيا كآلية لتحقيق الاستقرار بالمنطقة عبر التكريس لمنظومة تعاون أمنى ثلاثي بين واشنطن والرياض ونيودلهي تنطوي على تبادل المعلومات الاستخباراتية، والتضييق على أنشطة الحركات المتطرفة، وبالإضافة إلى ذلك يمكن للولايات المتحدة استخدام علاقاتها الدبلوماسية والأمنية والتجارية مع الرياض في الضغط على باكستان من أجل تبني استراتيجية أكثر تماسكًا لمجابهة وتطويق مناطق تمركز العناصر الإرهابية بصورة تقلل من نشاط تلك العناصر، وتبعث برسائل طمأنينة للهند.

طباعة

تعريف الكاتب

دانيال ماركي

دانيال ماركي

خبير في شئون أسيا