كيف يفكر العالم

تغيرات دراماتيكية:|الآثار الجيوسياسية لثورة أمريكا من الغاز والنفط الصخريين

طباعة

عرض: د. مروة نظير، خبيرة العلوم السياسية، المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية.

شهدت أسواق الطاقة العالمية تغيرات دراماتيكية خلال السنوات الخمس المنصرمة، فقد بدأ الإنتاج العالمي للطاقة في التحول بعيدًا عن الموردين التقليديين، مع بروز توجه لدى العديد من الدول للاستفادة من موارد النفط والغاز غير التقليدية، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية -أكبر مستهلك للطاقة عالميًّا- التي تشهد قفزات نوعية في هذا القطاع، معالتوجه نحو استخراج الغاز والنفط الصخريين بكميات كبيرة، الأمر الذي سيُغير خارطة أسواق الطاقة العالمية.

في هذا السياق، تأتي الدراسة التي أعدها روبرت بلاكويل وميجانسوليفان لعدد مارس/أبريل 2014 من دورية "فورين أفيرزForeign Affairs"، والتي تلقي الضوء على التأثيرات المباشرة وغير المباشرة للطفرة التي شهدتها أسواق الطاقة العالمية بسبب زيادة المعروض الأمريكي من الغاز والنفط الصخريين، فيما اعتبرته ثورة جديدة في مجال الطاقة.

ملامح الثورة النفطية الأمريكية:

ارتبطت التطورات التي تشهدها الولايات المتحدة في مجال الطاقة بالتوجه للاستفادة من اثنين من التكنولوجيات الحديثة، هما: الحفر الأفقي، الذي أدى إلى تنامٍ هائل في إنتاج الطاقة، فبين عامي 2007 – 2012 ارتفع إنتاج الغاز الصخري بالولايات المتحدة إلى أكثر من 50% سنويًّا،وقفزت حصته من إجمالي إنتاج الغاز في الولايات المتحدة من 5% إلى 39%. وتتم الآن إعادة هيكلة المحطات المستخدمة في نقل الغاز الطبيعي المسال الأجنبي إلى المستهلكين في الولايات المتحدة، بحيث تصبح قادرة على تصدير الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة إلى الخارج. وبين عامي 2007 و2012 أدى التكسير الهيدروليكي إلى زيادة مقدارها 18 أمثال إنتاج الولايات المتحدة من النفط. وبحلول عام 2020 يمكن للولايات المتحدة وكندا معًا تصدير كمية من الغاز الطبيعي المسال تقارب القدرات القطرية الحالية.

وبفضل هذه التطورات تستعد الولايات المتحدة الآن لأن تصبح قوة عظمى في مجال الطاقة. وبحلول العام المقبل-وفقًا لتوقعات وكالة الطاقة الدولية-ستتفوق الولايات المتحدة على المملكة العربية السعودية،أكبر منتج للنفط الخام في العالم. ورغم وجود العديد من التقارير عن اكتشاف رواسب جديدة للنفط والغاز في جميع أنحاء العالم؛إلا أنه ليس من السهل على البلدان الأخرى تكرار نجاح الولايات المتحدة في هذا المجال. فثورة التكسير المطلوبة ليست مجرد تقنية جيولوجية مواتية؛ بل يتطلب الأمر أيضًا وجود ممولين مستعدين للمخاطرة، ووجود نظام لحقوق الملكية يسمح لملاك الأراضي بالمطالبة بالموارد الموجودة تحت الأرض، وشبكة من مقدمي الخدمات والبنية التحتية الملائمة، وقطاع صناعي يعتمد على الآلاف من رجال الأعمال وليس شركة نفط وطنية واحدة. وباستثناء كندا، لا تتوفر لدى أي دولة بالعالم بيئة صناعية مواتية، كما هوالحال في الولايات المتحدة.

خارطة جديدة للأسعار:

على الرغم من أنه يصعب دائمًا التنبؤ بمستقبل أسواق الطاقة العالمية؛فإن التأثيرات الرئيسية لثورة الطاقة في أمريكا الشمالية قد بدأت تتضح بالفعل؛ إذ سيستمر المعروض العالمي من الطاقة في الزيادة والتنوع، وهو ما بدأ يتجلى في أسواق الغاز العالمية، والتي سيكون لها تأثير كبير على أسعار الطاقة العالمية. ففي الماضي كان سعر الغاز يتفاوت بشكل كبير بين ثلاث أسواق في أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا.

ومع توجه الولايات المتحدة إلى توليد وتصدير كميات أكبر من الغاز الطبيعي المسال؛ ستقل الفروق بين هذه الأسواق التي ستتجه للتكامل، كما يتوقع أن تؤدي السيولة الناتجة إلى ضغط لتخفيض أسعار الغاز في أوروبا وآسيا في العقد المقبل.

أما أبرز الآثار الجيوسياسية المحتملة لطفرة الطاقة في أمريكا الشمالية فتتمثل في إرباك الأسعار العالمية للنفط، والتي يمكن أن تنخفض بنسبة 20% أو أكثر؛إذ يتم حاليًّا تحديد سعر النفط من قبل منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) التي تنظم مستويات الإنتاج بين الدول الأعضاء فيها. وعندما تكون هناك اضطرابات غير متوقعة في الإنتاج، تتجه دول الأوبك -لاسيما المملكة العربية السعودية-إلى محاولة لتحقيق الاستقرار في الأسعار من خلال زيادة إنتاجها، وعندما ينخفض فائض الطاقة إلى ما دون مليوني برميل يوميًّاترتبك السوق بشدة، وتميل أسعار النفط إلى الارتفاع. أما عندما تشهد السوق ارتفاع فائض الطاقة الإنتاجية إلى ما يقرب من ستة ملايين برميل يوميًّا، تميل الأسعار إلى الانخفاض.

وعلى مدار السنوات الخمس الماضية،حاولأعضاء أوبك تحقيق التوازن بين الحفاظ على سعر نفطٍ كافٍ للوفاء باحتياجاتهم من جانب، وتوفير كمية كافية من النفط للحفاظ على دوران الاقتصاد العالمي، وتوصلت المنظمة للحفاظ على أسعار النفط عند سعر يتراوح بين 90 إلى 110 دولارات للبرميل.

وبدخول كميات أخرى من نفط أمريكا الشمالية إلى السوق ستنخفض قدرة أوبك على ضبط الأسعار. ووفقًا لتوقعات الإدارة الأمريكية لمعلومات الطاقة، من المتوقع أن تتمكن الولايات المتحدة بين عامي 2012 و2020 من إنتاج أكثر من ثلاثة ملايين برميل من النفط الجديد والوقود المسال يوميًّا.

هذه الكميات الجديدة يمكن أن تسبب تخمة في المعروض النفطي، مما يدفع الأسعار للهبوط،لاسيما مع تقلص الطلب العالمي على النفط نتيجة تحسن الكفاءة، أو بسبب بطء النمو الاقتصادي. في هذه الحالة، سيكون من الصعب على منظمة الأوبك الحفاظ على الانضباط بين أعضائها الذين سيصعب عليهم الحد من إنتاجهم النفطي في مواجهة المطالب الاجتماعية المتزايدة، كما أن استمرار انخفاض الأسعار سيخلق عجزًا في الإيرادات اللازمة لتمويل نفقاتها.

خاسرون ورابحون:

إذا انخفضت أسعار النفط وظلت منخفضة، ستتعرض الحكومات التي تعتمد على عائدات النفط والغاز لضغط هائل. وسوف يشمل ذلك بلدانًا مثل: إندونيسيا، وفيتنام في آسيا.وكازاخستان وروسيا في أوراسيا.وكولومبيا والمكسيك وفنزويلا في أمريكا اللاتينية.وأنجولا ونيجيريا في إفريقيا. وإيرانوالعراق والمملكة العربية السعودية في الشرق الأوسط.

ومن المتوقع أن تتباين قدرات هذه البلدان على تحمل مثل هذه الانتكاسات المالية، وهوما يعتمد -في جانب منه- على مدة استمرار الانخفاض في الأسعار. فضلا عن أن زيادة حجم وتنوع إمدادات النفط ستصب في صالح مستهلكي الطاقة في جميع أنحاء العالم، وهو ما سيُفضي في النهاية إلى تقلص نفوذ البلدان التي ترغب في استخدام إنتاجها من الطاقة لخدمة أغراض سياستها الخارجية.

سوف تتضرر موسكو بشكل كبير في هذا السياق، فعلى الرغم من أن روسيا تمتلك احتياطيات كبيرة من النفط الصخري يمكن تطويرها في المستقبل،فإن تغير خارطة المعروض النفطي سيؤدي لإضعاف البلاد على المدى القصير. فرغم أن تدفق الغاز من أمريكا الشمالية إلى السوق لن يحرر بقية الدول الأوروبية من النفوذ الروسي (إذ ستظل روسيا أكبر مورد للطاقة في القارة العجوز)،فإن دخول موردين جدد إلى السوق سيمنح العملاء الأوروبيين نفوذًا يمكنهم استخدامه للتفاوض على شروط أفضل مع الروس،كما حدث عامي 2010 و201. كما ستتعاظم مكاسب أوروبا إذا ما مضت قُدُمًا في دمج أسواق الغاز الطبيعي، وبناء عدد أكبر من محطات الغاز الطبيعي المسال لاستيراد الغاز؛ فمثل هذه الخطوات يمكن أن تساعدهافي درء الأزمات التي يمكن أن تحدث مثلما كان الحال عندما قطعت روسيا إمدادات الغاز إلى أوكرانيا في عامي 2006 و2009.

ويتوقع أن يؤدي الانخفاض المستمر في أسعار النفط إلى زعزعة استقرار النظام السياسي في روسيا بسبب اضطرار الحكومة لإجراء تخفيضات صارمة في الميزانية. وستحاول موسكو تعويض خسائرها في أوروبا بالتوجه نحو آسيا، ومن ناحية أخرى يقوم الإعلام الروسي وبوتين نفسه بالتحذير من المخاطر البيئية المترتبة على التكسير الهيدورليكي في أوروبا. كما يُتوقع أن تقدم روسيا لعملائها الأوروبيين صفقات أكثر تنافسية مثلما فعلت مع أوكرانيا بنهاية 2013. ولا تستبعد الدراسة أن تحاول روسيا تأمين نفوذها في هذا السياق باللجوء للقوة العسكرية.

كما سيفقد منتجو الطاقة في الشرق الأوسط نفوذهم، فمثلا تُعاني السعودية من قيود مالية متزايدة،لاسيما أنها اتجهت -ردًّا على أحداث الربيع العربي- إلى زيادة الإنفاق العام في الداخل، فضلا عن تقديم المساعدات الاقتصادية والأمنية للأنظمة السنية الأخرى في المنطقة، كما أنها تواجه ضغطًا متزايدًا من الشباب الذين يطالبون بتحسين التعليم،والرعاية الصحية، والبنية التحتية، وتوفير فرص العمل. وتشهد السعودية نموًّا متزايدًا في الطلب على الطاقة حتى أن استهلاكها المحلي من المتوقع أن يفوق صادراتها من النفط بحلول عام 2020

أما إيران -التي ترزح بالفعل تحت وطأة العقوبات الاقتصادية وسنوات من سوء الإدارة الاقتصادية- فمن المنتظر أن تواجه تحديات أخطر، لا سيماأنها تعتمد على إمدادات الطاقة لدعم نفوذها الإقليمي. وتبدو الآثار أقل وضوحًا للمكسيك، ولكن نظرًا لانخفاض إنتاجها من النفط، واعتماد ميزانيتها الكبيرعلى عائدات النفط؛ فمن المتوقع أن تُعاني البلاد أيضًا في حالة انخفاض سعر النفط. إلا أن الإصلاحات الأخيرة التي تُجريها المكسيك في قطاع الطاقة قد تُمكنها من معادلة آثار انخفاض الأسعار العالمية، إلا أن ذلك يتطلب تنفيذ حزمة من الإصلاحات أكثر ملاءمة للاستثمار الخاص في قطاع الطاقة.

وخلافًا لمنتجي الطاقة ينبغي على المستهلكين الترحيب بثورة الطاقة. فقد ساعدت زيادة الإنتاج في أمريكا الشمالية في حماية الأسواق العالمية بتوفير الطلب على النفط خلال الاضطرابات الأخيرة التي شهدتها دول مصدرة للنفط مثل ليبيا ونيجيريا وجنوب السودان. كما يمكن اعتبار انخفاض أسعار الطاقة بمثابة هدية خاصة للصين والهند، فتتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يتضاعف طلبهما منواردات النفط بنسبة 40% (للصين) و55% (للهند) خلال الفترة 2012-2035.

أما الصين، فتتنبأ الدراسة بأن تستفيد من هذه الطفرة عبر تحسين علاقاتها النفطية مع روسيا بشكل ملحوظ، فمن المتوقع أن تتجه روسيا إلى تأمين أسواق جديدة لنفطها في الشرق، وهو ما يعني أنه يمكن لموسكو وبكين إبرام صفقات الطاقة المتوقفة منذ فترة طويلة، ويمكن أن تشكل مثل هذه الترتيبات أساسًا لعلاقة جيوسياسية أكثر اتساعًا بين البلدين.

وبالنسبة للهند والاقتصاديات الآسيوية الأخرى، فزيادة كمية الغاز والنفط المنقولة عبر بحر الصين الجنوبي توفر فرصة وحوافز لجميع بلدان المنطقة لمكافحة القرصنة، والتعاون في المسائل الأمنية. أما حلفاء الولايات المتحدة في شرق آسياكاليابان والفلبين وكوريا الجنوبية فيمكنهم زيادة وارداتهم من الطاقة بشكل مباشر من الولايات المتحدة وكندا.

الولايات المتحدة.. الرابح الأكبر

ترى الدراسة أن الولايات المتحدة هي أكبر المستفيدين من الثورة النفطية. فمنذ عام 1971، أضحى تأمين الطاقة التزامًا استراتيجيًّا للبلاد، مع تعطش متزايد لتوفير الوقود الأحفوري بأسعار معقولة، مما يستلزم من واشنطن أحيانًا الدخول في تحالفات والتزامات غير منطقية، بيد أن هذا المنطق قد انتهى، فالاكتشافات الجديدة تقدم دعمًا مفتوحًا للاقتصاد الأمريكي؛ حيث تعطيه دفعة قوية عبر زيادة الاستثمارات في البنية التحتية والبناء والخدمات. ويقدر معهد ماكينزي العالمي أنه بحلول عام 2020 سيعزز إنتاج النفط والغاز غير التقليدي من الناتج المحلي الإجمالي السنوي للولايات المتحدة بنسبة تتراوح بين 2-4%، كما سيخلق 1.7 مليون وظيفة دائمة جديدة، وسيجعل الميزان التجاري الأمريكي أكثر توازنًا.

من ناحية أخرى، تؤمن طفرة الطاقةلواشنطن نفوذًا في جميع أنحاء العالم؛ حيث سينتهي اعتماد الولايات المتحدة على إمدادات الطاقة من الخارج، وهو ما سيمنحها قدرًا أكبر من الحرية في رسماستراتيجيتها الكبرى.فالاكتشافات النفطية الجديدة ستطلق يد واشنطن على الصعيد العالمي فيما يتعلق ببعض القضايا،لا سيما فرض العقوبات الاقتصادية على بعض الدول، فعلى سبيل المثال لم يكن ممكنًا لواشنطن إقناع المجتمع الدولي بفرض عقوبات على إيراندون تقديم ضمانات بأن إزالة النفط الإيراني من السوق الدولية لن يتسبب في ارتفاع الأسعار.كما يُعطي واشنطن وسيلة جديدة لتعزيز تحالفاتها، ويفتح لها أفقًا للتعاون مع دول مستهلكة للطاقة مثل الصين وأوكرانيا،وإذا تحسنت علاقات واشنطن مع تلك الدول، يمكن أن يعمل الجميع على تعزيز أمن الطاقة.

أخيرًا، يمكن لثورة الغاز الصخري تعزيز قيادة الولايات المتحدةللعالم بشأن تغير المناخ، فانبعاثات الكربون الناتجة عن الغاز الطبيعي تقل بنسبة 40% عن الانبعاثات الناتجة عن الفحم، وهوما يمنح واشنطن مصداقية أكبر في محادثات المناخ على نحو يمكنها من تبني مواقف أكثر تشددًا تجاه البلدان التي ترفض تقليل انبعاثاتها من الكربون.

وتختتم الدراسة بالتأكيد على أنه بالرغم من تغير خارطة الطاقة العالمية فإن المصالح الأمريكية لم تتغير، فالاكتشافات الجديدة في النفط والغاز لن تدفع واشنطن إلى الانسحاب منالساحة العالمية؛حيث ستظل الولايات المتحدة مرتبطة بقوة بأسواق الطاقة المعولمة، فأي خلل كبير في إمدادات النفط العالمية يؤثر على الأسعار في محطات البنزين في الولايات المتحدة، لذاعلى واشنطن الحفاظ على استقرار الأسواق العالمية بما يسمح لها بمواصلة حماية مصالحها الحيوية في مختلف أنحاء العالم، فضلا عن الحاجة إلى مراقبة الممرات البحرية الكبرى التي تمر من خلالها تجارة الطاقة والسلع الأخرى. لذا ستبقى واشنطن ضالعة في الشئون الخارجية، لا سيمابمنطقة الشرق الأوسط نظرًا لحيوية مصالحها في هذه المنطقة، واضطرارها للخروج من أفغانستان والعراق.

طباعة

تعريف الكاتب

روبرت بلاكويل وميجان سوليفان

روبرت بلاكويل وميجان سوليفان

خبيران في شئون الطاقة