كتب - كتب أجنبية

خريطة الثقافة‮ .. ‬سبر الحدود‮ ‬غير المرئية في مجال الأعمال

طباعة
علي الرغم من السرعة والكثافة التي قربت بها العولمة الثقافات العالمية من بعضها بعضا، بحيث صارت أكثر التصاقا،‮ ‬واحتكاكا،‮ ‬وتأثرا ببعضها أكثر من أي وقت مضي علي تاريخ البشرية، فإنه لا‮ ‬يزال للاختلافات الثقافية دور واضح لا يمكن إنكاره‮. ‬ويري البعض أن هذه الاختلافات تسبب سوء اتصال،‮ ‬وسوء فهم كلما زاد الاحتكاك بين الناس من خلفيات ثقافية مختلفة في مجال المعاملات الاقتصادية التبادلية‮. ‬وفي هذا السياق، يحاول كتاب‮ "‬خريطة الثقافة‮" ‬أن يوصف الممارسات الثقافية المتنوعة بين الآسيويين والأوروبيين،‮ ‬وسكان أمريكا الشمالية والجنوبية في ثمانية مجالات‮: ‬الاتصالات، وتقييم الممارسات، والإقناعات، والقيادة، والتراتبية، وصناعة القرار،  وبناء الثقة، والتعامل مع الخلافات، والجدولة‮.‬
 
مؤلفة هذا الكتاب هي بروفيسور إيرين ماير،‮ ‬أستاذة أمريكية بمعهد‮ ‬INSEAD‮ ‬بفرنسا،‮ ‬وهو واحد من أهم معاهد الأعمال في العالم، وتركزت أعمالها علي الكيفية التي يقوم بها أكبر المديرين في العالم بالتعامل مع تعقيدات الاختلافات الثقافية في بيئة دولية معولمة‮.‬ وقد عملت ماير في مجالات مختلفة في بلدان إفريقية،‮ ‬وأوروبية،‮ ‬وآسيوية، مما منحها القدرة علي تلمس واستكشاف الاختلافات الثقافية بين شعوب العالم‮.‬ وإلي جانب عملها في‮ ‬INSEAD، تنشر ماير‮  ‬مقالات وبحوثا في مجال الأعمال في دوريات مثل‮ ‬Harvard Business Review، وقامت بإلقاء محاضرات عن قضية التنوع الثقافي داخل عدد كبير من الشركات العالمية،‮ ‬والمؤسسات،‮ ‬والبنوك الكبري،‮ ‬مثل الأمم المتحدة،‮ ‬والبنك الدولي‮.‬
 
تنوع الثقافات أم تنميطها؟‮:‬
 
تقدم ماير‮  ‬في هذا الكتاب أداة لأصحاب الأعمال والقراء لفهم الآخر، هذه الأداة تتمثل في خريطة ثقافية تحدد الكيفية التي يقوم من خلالها الناس في بقاع الأرض الشاسعة بالتفكير والعمل والإنجاز‮. ‬تقول ماير‮:  ‬إنه فيما يعتقد الكثيرون أن الاختلافات التي تصادفهم في مجال العمل تعود إلي الطبائع الشخصية لدي المتعاملين معهم، إلا أن هذه الاختلافات ترجع إلي حد كبير إلي الاختلافات الثقافية، وهي اختلافات ليست بالهينة‮. ‬غير أن الخريطة الثقافية لا تعني تنميط الآخر أو الثقافات الأخري بقدر ما تحاول الاقتراب منها، فتقول ماير‮: ‬إن الغربيين دائما ما يعتقدون أن الآسيويين في العموم هادئون ومتحفظون،‮ ‬وربما خجولون‮.‬ وإذا تسني للمرء أن يكون فريق عمل مشتركا من آسيويين وغربيين،‮ ‬فسيجد الشكوي ذاتها من أن المشاركين الآسيويين لا يتحدثون كثيرا،‮ ‬ولا يحسنون تقديم تفضيلاتهم وخياراتهم الشخصية خلال الاجتماعات‮. ‬غير أن هذه الآراء التنميطية لا تفسر الكثير من سلوك الأشخاص الذين نعدّهم مختلفين‮.‬
 
تقول ماير‮: ‬إنها تحاول في هذا الكتاب أن تقدم اقترابا تدريجيا ومنظما لفهم تحديات التواصل المشترك في مجال الأعمال،‮ ‬وهي تلك التحديات النابعة من الاختلافات الثقافية،‮ ‬وأن تقدم خطوات أكثر فعالية في التعامل معها‮. ‬وتبدأ هذه العملية من إعادة تنظيم العوامل الثقافية التي تشكل السلوك الإنساني،‮ ‬وبتحليل أسباب هذا السلوك نظريا‮. ‬وسيسمح هذا بدوره بتطبيق استراتيجيات واضحة لتحسين كفاءة حل المشكلات المستعصية التي يسببها سوء الفهم للثقافات، أو لتجنبها كليا‮.‬
 
تنوعات‮ ‬غير مرئية‮:‬
 
علي الرغم من ازدياد التواصل والترابط بين أجزاء العالم، فإنه في الحقيقة لا تدرك الغالبية العظمي من مديري العالم كيفية تأثير الثقافة في أعمالهم الممتدة عبر العالم‮.‬ وتري ماير أن هذه الحقيقة تزداد،‮ ‬وللمفارقة،‮ ‬مع ازدياد التواصل عبر العالم الافتراضي ومنتجاته الاتصالية مثل البريد الإلكتروني،‮ ‬والسكايب،‮ ‬والسوشيال ميديا‮. ‬فعلي عكس الحال عندما ننتقل إلي بلد أجنبي،‮ ‬ونقضي به وقتا،‮ ‬ونتعرف علي ثقافته،‮ ‬ونفك شفرة اختلافاته، لا يسمح لنا تبادل الرسائل الإلكترونية بالتعرف علي الآخر،‮ ‬ومعرفة تمايزاته،‮ ‬وهو ما يجعلنا عرضة بشكل أكبر‮  ‬للوقوع في فخ سوء الفهم الثقافي‮. ‬وتضرب ماير مثالا علي هذا بحال من يسافر إلي الهند،‮ ‬ويجد أن نصف المصافحة أو نصف الإيماءة بالرأس ليس دلالة علي الفتور،‮ ‬أو عدم الدعم والتأييد‮.‬ فعلي العكس من بلدان أخري، تعني هذه الإشارات التحمس،‮ ‬والدعم،‮ ‬والتأييد لدي الهنود‮.‬ مثل هذه الأمور لا يدركها من يكتفي بإرسال البريد الإلكتروني لزملائه في العمل من الهنود،‮ ‬وهو جالس في مكتبه في الدنمارك أو‮  ‬كولومبيا‮. ‬فالتعرف علي تمايز الآخر ينبغي أن يكون من خلال التعرف علي بيئته،‮ ‬والتعايش معها،‮ ‬وصولا إلي تفهمها‮.‬
 
تؤكد ماير أن هذه الاختلافات الطفيفة تؤثر في تواصلنا،‮ ‬سواء عرفنا بها أو لم نعرف‮. ‬واليوم،‮ ‬أصبحنا نعمل في دوسلدورف،‮ ‬أو دبي،‮ ‬أو برازيليا،‮ ‬أو بكين،‮ ‬أو نيويورك،‮ ‬أو نيودلهي في شبكة عالمية واحدة، حقيقية أو افتراضية، مادية أو إلكترونية‮.‬ ويتطلب نجاح هذه الشبكة سبر أغوار الاختلافات الثقافية التي تعمل في سياقها هذه الشبكة، وإلا فسنصبح فريسة سهلة لسوء التفاهم،‮ ‬والفشل النهائي‮.‬
 
بيد أن ماير تعود لتستدرك قائلة‮: ‬إنه ربما يعمل المرء لسنوات،‮ ‬وربما لعقود،‮ ‬عبر ثقافات متنوعة،‮ ‬وأن يسافر بشكل منتظم من أجل العمل،‮ ‬ومع ذلك يبقي‮ ‬غير واع بتأثير الثقافة فيه‮.‬ مثل هؤلاء يعملون داخل إطارهم،‮ ‬ويرون الآخرين من منظورهم الخاص،‮ ‬ويعزون أي اختلاف أو تنوع إلي الطبائع الشخصية‮. ‬لكن هذا الاعتقاد ليس ناتجا عن الكسل، وإنما ناتج عن عدم رغبة هؤلاء في تثقيف أنفسهم بثقافات الآخرين، فيستسلهون التركيز علي الاختلافات الشخصية دون رؤية المنظومات الثقافية التي تحكم الأشخاص‮. ‬لذا،‮ ‬تري أن هذه الاختلافات‮ ‬غالبا ما تكون‮ ‬غير مرئية بالنسبة للكثيري،‮ ‬وتحتاج فقط إلي القدرة والرغبة في تعلم ثقافات الآخرين‮.‬
 
تنقسم فصول الكتاب الثمانية إلي مجموعة من العمليات التي تتخلل التبادلات الاقتصادية المعولمة، وتحاول ماير أن تطبق رؤيتها للاختلافات الثقافية علي هذه العمليات‮.‬ وبالتالي،‮ ‬يجمع هذا الكتاب بين التأطير النظري لفكرة التنوع الثقافي وتأثيره في المبادلات التجارية العالمية، وبين تقديم الدليل العملي لكل من القراء والمديرين المنخرطين في مجال الأعمال للتعامل مع الاختلافات الثقافية‮. ‬ويفترض الكتاب ضمنا التسليم بقدرة النظام الرأسمالي العالمي،‮ ‬عبر شركاته المتعددة والكبري،‮ ‬علي دمج العالم كله في نظام عالمي شبكي يجمع مناطق العالم كله، وكذلك التسليم بأنه لا سبيل للقضاء علي الاختلافات الثقافية،‮ ‬وعدم قدرة العولمة الرأسمالية، رغم أدواتها الجبارة، علي القضاء علي اختلافات البشر‮.‬ وبالتالي،‮ ‬يمثل الكتاب تحديا للمقولة التي تتحدث عن خطر الرأسمالية علي الهويات والثقافات المحلية، وانقراض الأخيرة وتراجعها بفعل أدوات الإدماج الرأسمالي‮.‬ فمن الواضح بالنسبة للكتاب أنه لا فكاك من التنوع الثقافي،‮ ‬ولا مهرب من تعايش البشر مع اختلافاتهم‮.‬
طباعة

    تعريف الكاتب

    إيرين ماير