كتب - كتب عربية

السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي تجاه جنوب المتوسط في أعقاب الثورات

طباعة
عرض: رغدة البهي - مدرس مساعد بقسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة
 
أسفرت الثورات العربية عن مراجعة الاتحاد الأوروبي لسياسته تجاه جنوب المتوسط، إذ مثلت تلك الثورات تحديا حقيقيا واختبارا هو الأول من نوعه أمام قدرة الاتحاد الأوروبي علي التعامل مع الأزمات الدولية، والتحديات الخارجية. فقد كانت الثورات العربية أزمة علي حدوده الجنوبية، وهي الأزمة الكاشفة للعديد من الاختلالات الجوهرية التي تعانيها سياسته الخارجية، والتي استرعت مراجعته للسياسة المتوسطية من حيث الأولويات والسياسات.
 
وفي هذا الإطار، تبرز أهمية رسالة الماجستير التي قدمتها هايدي عصمت كارس سعيا لسبر أغوار السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، في محاولة لفهم سياسات الديمقراطية، والحكم الرشيد تجاه جنوب المتوسط، في سياق مرحلتين متباينتين علي الصعيد العربي، وإن حكمت الحسابات الأمنية والاستراتيجية كلتيهما. فتناولت الدراسة بالتحليل مرحلتي ما قبل الثورات العربية وما بعدها للوقوف علي أوجه الاستمرارية والتغير في السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي تجاه جنوب المتوسط، وذلك من خلال الوقوف علي محددات السياسة الخارجية للاتحاد، والتهديدات الأمنية النابعة من منطقة جنوب المتوسط، وصولا لأدوات وسياسات الاتحاد الخاصة بدعم الديمقراطية والحكم الرشيد في المنطقة، وانتهاء بنمط التغير في تلك السياسة، عقب الثورات العربية.
 
المحددات تجاه جنوب المتوسط:
 
استهلت الباحثة الدراسة بالحديث عن محددات السياسة الخارجية للاتحاد، علي ضوء اتفاقية لشبونة التي هدفت لتوحيد صوت الاتحاد الأوروبي دوليا بهدف تقوية سياسته الخارجية في مواجهة التحديات الأمنية المشتركة التي تواجهه من ناحية، ومواجهة القصور في فعالية سياسته الخارجية علي المستوي الدولي من ناحية أخري. غير أن تلك السياسة لا تزال بطيئة في رد فعلها، وتتطلب توافقا بين الأعضاء من أجل الإتيان بسياسة خارجية مشتركة، فضلا عن تعدد المتحدثين باسم الاتحاد.
 
لذا، أسفرت طبيعة صنع قرار السياسة الخارجية الأوروبية عن بطء الاتحاد في التعامل مع الأحداث في جواره الجنوبي، مع عدم قدرة الممثل الأعلي علي تحقيق التوافق، في ظل الانقسام الحاد في المواقف الأوروبية. لذا، كانت الثورات العربية إخفاقا للممثل الأعلي، وهيئة العمل الخارجي الأوروبي في أول اختبار لها.
 
ولا يخفي أن ثورات الربيع العربي قد اندلعت في توقيت تأججت فيه أزمة اليورو اشتعالا، وهي الأزمة التي هددت تماسك الاتحاد الاوروبي بل وقوته الناعمة كنموذج تكاملي إلي حد تهديد وجوده ككيان. فقد ركز الاتحاد تباعا علي كيفية حل أزماته الداخلية، مما جعل السياسة الخارجية في ذيل أولوياته، مما أثر بالسلب في سياساته الخارجية تجاه الثورات العربية، في ظل زحف ما سمي بـ "إعادة تأميم السياسة الخارجية الأوروبية" في اتجاه معاكس لفكرة "أوربة السياسة الخارجية"، والتي تقوم الدول بموجبها بتطويع سياساتها الخارجية لتتلاءم مع السياسة الخارجية للاتحاد. وقد أسفرت الأزمة عن اتباع الاتحاد لسياسات تقشفية قوضت من قدرته علي تقديم الحوافز المالية، في إطار سياسة المشروطية، مما أثر بالسلب في فاعلية سياساته تجاه جنوب المتوسط.
 
وقد تضافرت العديد من المحددات الخارجية مع المحددات الداخلية السابقة، فقد أثرت الشراكة الأطلسية بين الولايات المتحدة وأوروبا في سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه جنوب المتوسط وثوراته العربية. ففي ظل غلبة الانقسامات الداخلية، والصراع المؤسسي، فشل الاتحاد في طرح رؤية للتعامل مع الثورات العربية، فأصبح دوره تابعا للولايات المتحدة يراقب الأوضاع، ثم ينتظر الموقف الأمريكي ليأتي ثانيا علي إثره.
 
تجلي ذلك الأمر في تعامل الاتحاد مع صعود التيارات الإسلامية إلي سدة الحكم في العديد من الدول المتوسطية، عقب الثورات العربية. فقد تبع التحول في الموقف الأمريكي تجاه وصول الحركات الإسلامية إلي الحكم تغير في الموقف الأوروبي الذي كثيرا ما كان ينظر لحركات الإسلام السياسي علي أنها تهديد لأمنه.
 
الديمقراطية .. والحسابات الأمنية والاستراتيجية:
 
تفترض المحددات السابقة أن نشر الديمقراطية والحكم الرشيد هو الهدف ذو الأولوية الأولي لدي الاتحاد الأوروبي، غير أنه لم يكن هدفا قيميا يسعي إليه الاتحاد في حد ذاته، بل كان هدفا أمنيا، واستراتيجيا، وآلية، ووسيلة لمواجهة التهديدات الأمنية الناعمة النابعة من جنوب المتوسط -وفي مقدمتها الهجرة غير الشرعية، والإرهاب، وأمن الطاقة - ودافعا وراء مبادرات الاتحاد الأوروبي تجاه تلك الدول كجزء من منهج متكامل للتعامل مع تلك التهديدات. فقد واجه الاتحاد، في سبيل الاستجابة لتلك التحديات، معضلة كبري بين هدفين لكل منهما مردوده الأمني بين الترويج للديمقراطية بحسبانها حلا طويل الأمد، والحفاظ علي الاستقرار السياسي في دول جنوب المتوسط بالإبقاء علي علاقات صداقة وتحالف مع الأنظمة السلطوية كشريك رئيسي في مواجهة تلك التهديدات.
 
وعقب الثورات العربية، لم تختف مصالح الاتحاد الأمنية، بل زادت حدتها علي نحو قوض من دوره في الترويج للديمقراطية في المنطقة. واستمرت تلك المصالح واضحة في العلاقات الأورو-متوسطية لتظل محددا لمراجعة الاتحاد الأوروبي لسياسته تجاه جنوب المتوسط عقب الثورات العربية.
 
الاستمرارية والتغير عقب الثورات العربية:
 
يصف الاتحاد الأوروبي مراجعته لسياساته تجاه جنوب المتوسط "بالنقلة النوعية" في سياساته المروجة للديمقراطية، وفي كيفية إدراكه وتحقيقه لأهدافه الاستراتيجية. غير أن الدراسة المتعمقة للاستمرارية والتغير في تلك السياسات تجاه جنوب المتوسط تكشف عن عدم صحة هذا الادعاء، فتلك السياسات ما هي إلا نتاج للمحددات سالفة الذكر، خاصة الأمنية منها.
 
فقد استمر الاتحاد في الاعتماد علي العديد من الأدوات التي استخدمها قبل عام 2011 للترويج للديمقراطية، وفي مقدمتها المشروطية، رغم تضاؤل فعاليتها. كما استمر الاتحاد في الاعتماد علي الاقتراب "من أعلي إلي أسفل"، أي التعاون مع الحكومات، من خلال التركيز علي بناء مؤسسات الدولة. بيد أنه قد طرأ تغير كيفي وحيد علي اقتراب "من أسفل إلي أعلي"، وذلك من خلال إعطاء مزيد من الاهتمام للمجتمع المدني، باستحداث آليتين جديدتين، هما "الجوار للمجتمع المدني"، و"المؤسسسة الأوروبية من أجل الديمقراطية"، رغم تعدد علامات الاستفهام المطروحة علي فعالية كل منهما.
 
وقد استمر الاتحاد في تعاونه الأمني مع دول جنوب المتوسط لمواجهة العديد من التهديدات النابعة من المنطقة والمهددة لأمنه كالهجرة غير الشرعية، والإرهاب، وتأمين إمدادات الطاقة، وهو التعاون الذي كثيرا ما تعارض مع سياسة الاتحاد الأوروبي للترويج للديمقراطية. فكثيرا ما غض الاتحاد النظر عن سياسات دول جنوب المتوسط غير الديمقراطية، مقابل تعاون الأخيرة أمنيا معه.
 
وقد خلصت الدراسة إلي أن السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي -علي ضوء محدداتها الداخلية والخارجية - تتجه صوب مزيد من الاستمرارية علي حساب التغير، وأن المراجعة التي أجراها الاتحاد الاوروبي علي سياساته ما هي إلا انعكاس لتغير كيفي في مستوي اهتمام الاتحاد بجنوب المتوسط، ولكن في إطار الأدوات والأهداف نفسها. وقد تمثل التغير الكيفي الوحيد في إعطاء مزيد من الاهتمام بدعم المجتمع المدني، مع استمرار الحسابات الأمنية والاستراتيجية كمحدد لسياسة الاتحاد الأوروبي المروجة للديمقراطية، واستمرار التعاون الأمني بين دول الاتحاد وجنوب المتوسط.
 
اختتمت الدراسة بإلقاء نظرة  مستقبلية، تتوقع في إطارها الباحثة استعادة مصر لمكانتها الدولية، وتوطيد أواصر التعاون العربي - العربي، مصحوبا بتراجع أدوار الدول الغربية في المنطقة، رغم تعدد محاولات الاتحاد للتكيف مع سعي دول جنوب المتوسط لفرض النظام والاستقرار، مع استمرارية أجندته للترويج للديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، لكن في حدود لا تؤثر في الاستقرار والتعاون مع تلك الدول.
طباعة

    تعريف الكاتب

    هايدي عصمت كارس

    هايدي عصمت كارس

    كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، 2014