مقالات رأى

الإعلام الرسميّ السوريّ وتكريس السلطوية

طباعة
حين بدأت الاحتجاجات في سوريا، سارعت دوائر سياسية وأمنية عديدة إلى شيطنةِ الحراك، وقالت إنّ المتظاهرين ليسوا سوى مخرّبين مأجورين مشاركين في «المؤامرة الصهيوأميركية» على سوريا. وبرغم أنّ القيادة السورية أكّدت، وإن بشكلٍ نظريّ، حرصها على التفاعل مع مطالب الشّارع ورغبتها بالوصولِ إلى واقعٍ يُرضي الشعب السوري عامّة، والفريق المتمرّد منه خاصّة، إلّا أنّ الأداء الإعلاميّ الرسميّ كان دائماً متأخّراً عن الحدث، وظلّ متشبّثاً بتكريس نظرية المؤامرة ولم يدّخر جهداً في سبيل ذلك. حتّى أنّه فتح منابره للمراهق المصريّ «أحمد سبايدر»، الّذي شُرّعت له أبواب كليّة الحقوق في جامعة دمشق أيضاً، فجلسَ في مدرّجاتها وراح يحاضر بالسوريين المعذّبين، في الوقت الّذي ظلّت فيه المراكز الثقافية عصيّة على نخبٍ فكرية كثيرة لمجرّد كون هذه النخب تغرّد خارج سرب السلطة. الإعلام المحليّ لا يكترث بهؤلاء المفكّرين، وهو ليس جاهزاً لجعلهم يخاطبون الشارع عبر منابره الّتي تُستباح كلّ يومٍ مِن قبل مَن يَقول كلاماً معسولاً بحقّ الفريق الحاكم، حتّى لو كان القائل حكواتياً يقصّ على السوريين «تحليلات» طلائعية، تبشّرهم بانتهاءِ الأزمة غداً أو بعد غد أو بعد مئة يوم.
 
إذا حاولنا أن نحصي سقطات الإعلام السوري خلال السنوات الخمس الماضية، لوصلنا إلى حصيلةٍ كارثية. والحديث هنا لا يطالُ الأغلاطَ الّتي يسبّبها فقر الموارد، بل «الخطايا» الناتجة عن ضعفِ تأهيل الكوادر العاملة في هذا الإعلام، والّتي لا يُشترط، في حصول أصحابها على فرصِ عملٍ، أن يكونوا مثقّفين بما يكفي. فهم لا يُسألون عن قراءاتهم ومطالعاتهم وليسوا مطالبين بإظهارِ مهاراتٍ مضافةٍ تسمح لها بتقديم منجزٍ مهنيّ محترم لمتابعيهم، بقدرِ ما هم مطالبونَ بإبداءِ ولائهم الأعمى للسلطة. وضمن هذا السّياق نستطيع التصالح مع نتيجة بسيطةٍ، مفادها أنّ الإعلام الرسميّ الّذي لم يستضف صوتاً معارضاً، والاستثناءات هنا حاضرةٌ على ندرتها، ولم يسمح لكفاءاتٍ «غير موالية» بالعمل في مؤسّساته، هو إعلامُ سلطة، وليسَ إعلامَ دولة.
 
مفردة «عامّة» في عبارة «الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون» تعني أننا نتحدّث عن مؤسّسة حكومية يملكها الشعب، كلّ الشعب، وأنّ رواتب موظّفي هذه الهيئة تُدفع من ضرائب تجبيها الدولة من كلّ الشعب، وليسَ من فريقٍ سياسيّ واحد. فنحن هنا لا نتحدّث عن حزبٍ يُموّل نفسه من اشتراكات أعضائه، بل عن جهازٍ حكوميّ مطالبٍ بتمثيل السوريين على اختلاف انتماءاتهم. وضمن هذا السّياق يحقّ لنا أن نتساءل عن السّبب الّذي يمنع القائمين على الإعلام الرسمي من استضافةِ بعضٍ من معارضي الداخل والسماح لهم بتقديمِ خطابٍ وطنيّ قد يتنافى مع خطاب «البعث»، وذلك بالتزامن مع تصريحاتِ الرئيس بشّار الأسد الّذي أكّد، في مناسباتٍ كثيرة، أن دمشق منفتحةٌ على كلّ مبادرةٍ سياسية لحقن الدماء في سوريا. وبعبارةٍ أخرى: لماذا لا يشتغل المعنيّون بالشّأن الإعلاميّ على ترجمة هذه التصريحات بأداءٍ يبرهن عن استعداد الدولة لاحتضان كلّ فصيل سياسيّ يجاهر بمحاربة الإرهاب، حتّى وإن كان هذا الفصيل معارضاً للحكومة السورية؟
 
العارف بطرائق عمل منظومة الإعلام الرسميّ، يُدرك جيداً أنّ كلّ ما فيها يخضع لرقابة نستطيع أن نصفها اصطلاحاً بـ «الشـُرَطيّة». ذلك أنّ الخطابَ السياسي ليس الوحيد الّذي تمّت قولبته وفق وجهة نظرٍ بعثيـّة جامدة. فالدراما والبرامج الثقافية والوثائقيّات، على قلّتها، تخضع أيضاً لمقصّ الرقيب الّذي يعمل وفق مزاجٍ سُلطويّ بحت، ومن دون معايير واضحة لآليات الحذف وموجباته. فكلّ مادة يجد فيها الرقيب شكلاً من أشكالِ الشّغب السّياسيّ أو المجتمعيّ يجري اقتصاصها وحذفها من دونَ اكتراثٍ بمجهود الفريق العامل على إنتاج هذه المادة. وبمعنى آخر، فإنّ كلّ ما يُقلق السّلطة يُحذف، ولأنّ ثنائية (الشعب، السلطة) محكومةٌ أبداً بالنديّة، فإنّ كلّ ما من شأنه أن يشكّل خطاباً شعبياً يحتجّ على مفصلٍ رئيس من مفاصل عمل السّلطة، سوف يتمّ اقتصاصه بصورةٍ تجعلنا نؤكّد من دون ارتيابٍ أو لبس بأنّ الإعلام الرسميّ السوريّ يشتغل وفق منهج إعلام السّلطة، وليسَ إعلام الدّولة الّتي ينتمي إليها الشعب على اختلاف انتماءاته السياسية.
 
حين بدأت رقعة المظاهرات في سوريا تتوسّع جغرافياً، رفضَ التلفزيون الرسميّ، مراراً، أن يغطي هذه المظاهرات، وأن يرافق المحتجّين ويستمع إلى ما قيل عنه، لاحقاً، في الإعلام الرسميّ نفسه إنّه «مطالب محقّة». وبدلاً من ذلك، تجاهلت وسائل الإعلام المحليّة أغلب الاعتصامات والتمرّدات، وكأنّها تقول لأصحابها «اذهبوا ابحثوا عن إعلامٍ يلتفت لكم، فأمثالكم لا صدى لأصواتهم في منابرنا»، الأمر الّذي استغلّته الفضائيات الخليجية سريعاً، وراحت توثّق، وإن بصورةٍ غير شرعية، عموم المظاهرات المطالبة بالإصلاح بدايةً، وبإسقاط النظام في مرحلةٍ لاحقة. وفي المحصّلة، نجد أنّ التلفزيون الرسميّ قد طرد شريحة شعبية لا بأس بها من بيته، ثمّ سارع إلى اتهام المُنتمين إليها بالعمالة بمجرّد لجوئهم إلى منابرَ أخرى تتحدّث بلسان حالهم قبل أن تبدأ. والحديث عن المنابر الّتي احتضنت الخطابَ المعارض، باستغلالِ الشارع السوري المتظاهر وتوظيفه لخدمةِ أغراضٍ سياسيّة صارت معلومةً للجميع. ولو أنّ الإعلام الرسميّ واكبَ الاحتجاجاتِ الشعبيّة بمصداقية، وبعيداً عن مروره الدعائيّ والادعائيّ الّذي ركّز على مظاهراتٍ خجولةٍ في بقعٍ متفرّقة من دمشق وريفها، لكان استطاع، بالتّأكيد، أن يستميل جزءاً يسيراً من الشارع المتظاهر ويفوّت بذلك الفرصة على إعلام الخصوم، الّذين استطاعوا أن يلجوا إلى الداخل السوريّ بحجّة «دعم الثورة».
 
التسوية السياسية، الّتي تشكّل نهايةً حتمية للأزمة السورية، سوف تفضي إلى تعددية حقيقية في البلاد. والتعددية تعني أن يشتغل كلّ فريقٍ سياسيّ على كسبِ شرائح مضافةٍ من الجمهور المحليّ عن طريق وسائلَ إعلامٍ ناطقةٍ باسمه. وهنا سوف يجد التلفزيون السوريّ نفسه محاطاً بمنافسين متفوقين عليه في الذهنية والكفاءات. حينها قد يفقد الإعلام الرسميّ جمهوره، الضّيق أساساً، ما لم يتخلّص من خطابه «السلطويّ» ويستبدل به خطاباً جامعاً ينتمي إليه جميع السوريين.
 
-------------------------
* نقلا عن السفير اللبنانية، 28-11-2015
طباعة

تعريف الكاتب

رامي كوسا