مقالات رأى

فى خطورة المسألة القانونية

  • 9-7-2015

طباعة
مساء يوم الاثنين ٢٩ يونيو المنصرم، استضافنى برنامج «يحدث فى مصر» للأستاذ شريف عامر للحديث فى جريمة اغتيال المستشار هشام بركات، المدعى العام، وإحدى القامات الكبرى فى السلطة القضائية المصرية. وأثناء الحوار أتى العديد من مداخلات مستشارين من أصحاب العلم والتجربة، كان أولهم المستشار الجليل عبدالمجيد محمود الذى كان أول من طرح «القصور» الجارى فى القوانين المصرية، بدءا من قانون الإجراءات الجنائية وحتى قانون العقوبات. ومن وجهة نظره، لم تكن هذه القوانين قديمة فقط، وإنما لا تشكل رادعا كافيا للإرهابيين، وجاء بعده مستشارون أجلاء ساروا على نفس الطريق، مع إضافة معلومات، ودرجات مختلفة من التشدد والاعتدال. وللحق فإن كلها اتفقت على إقامة تلك المعادلة بين ردع الإرهابيين من ناحية، وحماية حقوق المتهم من ناحية أخرى. كنت مع الجميع حزينا وغاضبا، ولكن سؤالا ظل يلح علىّ طوال الحلقة: هل لو كانت لدينا كل هذه التعديلات القانونية، فإن من قام باغتيال المدعى العام كان سيتوقف خائفا من العقاب الناجز عن محاولة الاغتيال؟
 
يقال إن «لو» تفتح الباب لعمل الشيطان، ولكن يقال أيضا إن الشيطان يكمن فى التفاصيل، ولا يمكن بحث هذه التفاصيل إلا من خلال أسئلة افتراضية تكشف لنا المكنون فى ظواهر معقدة. ورغم الحديث الذى أخذ فى التصاعد حول «العدالة الناجزة» و«الردع»، فإن الأعمال الإرهابية ومشروعاتها الناجحة والفاشلة من اغتيالات وتفجيرات استمرت طوال يومى الثلاثاء والأربعاء حيث بلغت ذروتها فى مواجهة سيناء الدامية. كان واضحا أننا إزاء منعطف جديد فى العمليات الإرهابية، فمن ناحية بدا الأمر حالة «إقليمية» حيث جاءت العمليات فى مصر فى أعقاب عمليات جرت فى تونس والكويت وأماكن أخرى فى المنطقة. ومن ناحية أخرى بدت الظاهرة متنوعة الِِِإحكام والنطاق، فقد انفجرت المفرقعات فى يد الإرهابيين أنفسهم قبل إطلاقها، وذهبت جماعات أخرى لأبراج ومحولات الكهرباء، بينما جاءت عمليات لتصفية رجال للشرطة، وفى الوقت نفسه نجد عملية اغتيال المدعى العام، والهجمات المنظمة على ١٥ موقعا فى سيناء. ومن ناحية ثالثة بات واضحا أن هناك تنسيقا كبيرا بين الإرهاب المباشر والتجهيزات الإعلامية والدعائية المصاحبة له خاصة من قناة الجزيرة التى صاحبت الإرهابيين أثناء العملية الإرهابية فى سيناء، أو أن الإرهابيين اصطفوها من بين أجهزة الإعلام فى الدنيا كلها لكى تحصل على أفلام يجرى فيها قتل مصريين بدم بارد، وتجرى فى خيلاء فيها قوافل الإرهاب وهى تتحرك بصلافة وسط أراض مصرية. ولم يكن يقل أهمية عن الصورة إلا الكلام الوارد على الشبكة التى كان واضحا فيها أن هناك إعدادا مسبقا للمتحدثين من جماعة الإخوان من تركيا التى لا تتورع عن اتهام السلطات المصرية بقتل المدعى العام، والفشل فى مواجهة سيناء، والوحشية فى تصفية اجتماع لقادة جماعة الإخوان السرية، والفشل فى احتواء كل العناصر السياسية فى مصر. كانت الحرفية عالية فى الهجوم على مصر، إذا فعلت أو لم تفعل، وإذا تحدثت أو سكتت، وإذا تحركت أو سكنت.
 
التفاصيل وما فيها من استطراد ممتلئ حتى الحافة بشياطين كثيرة وعصية على الحصر، ولا يمكن التعامل معها ما لم نطرح الأسئلة الصحيحة، لكى نحصل على إجابات صحيحة. فوسط كل ما سبق، فإن السؤال الملح يظل هو هل تغيير أو تعديل القوانين أو حتى إعلان حالة الطوارئ كلية فى البلاد كان سيغير من الأمر شيئا؟ أعلم أننى أقترب من نطاق اجتمع عليه الرأى العام، والإعلام، وتحدث عنه رئيس الجمهورية، وتخلق حوله مزاج عام يبحث عن حل سريع لمعضلة تهدد عملية بناء جبارة نسعى إليها، وأتى أوان حصد أول بواكيرها مع افتتاح مشروع قناة السويس. ولكن الصراحة تقتضى، والضمير يطالب بالصراحة أنه مع أهمية الإصلاح القانونى و«العدالة الناجزة» فإن ذلك أمر وما نواجههه ربما يكون أمرا آخر لأنه غير قابل للردع، ولا يقبل بأقل من النصر الكامل. وأخشى ما أخشاه أن يصاب الرأى العام بالإحباط بعد أن يجد أنه بعد تعديل القوانين أنها لم تحقق رادعا للإرهاب، بينما أعطت للآلة الدعائية الجهنمية أدوات جديدة للتشهير والتنديد المضر بالاقتصاد القومى والسمعة والمكانة المصرية، والأخطر للتجنيد بين شباب لا يعرف الفارق بين قانون وآخر. بالطبع يمكننا جميعا هز الأكتاف، فلا يوجد بعد سلامة الوطن ما يستحق الاهتمام، ونستطيع القول لكل من يقول عنا بسوء أن باستطاعته أن يذهب إلى الجحيم، ولكن ذلك لا يكون صحيحا إلا إذا كانت له نتائج مباشرة إيجابية على مكافحة الإرهاب.
 
أعرف أن هناك ادعاء بالحكمة ذائعا مثل القول إن الحلول الأمنية «لا تكفى» لمشكلة الإرهاب، وإنه لا بد من حلول «سياسية» مواكبة، وهى عادة لا يجرى ذكرها، لأنها تعنى الانصياع لمن يقومون بالإرهاب، وإنما تترك غائمة للوم مرة، وللتقريع بالفشل مرة أخرى. والحقيقة أنه فى ظل الظروف الراهنة، وحالة الجماعة أو الجماعات الإرهابية، فإن مثل هذا الحل لا وجود له، ولن يشكل فارقا كبيرا الإفراج عن الإخوان أو ٦ إبريل فى المدى الذى يمكن أن تصل له الجماعات الإرهابية، ومن لا يعرف درس تونس التى جرى التغنى بديمقراطيتها، ولا درس الكويت المعروفة بغناها، وبعد الفقر عنها، فإنه لم يعرف الكثير عن طبيعة الفاشية الدينية. العدو لا يريد الحرية وإنما الاستعباد والاسترقاق والسبى، ولا يعرف شيئا عن الديمقراطية لأن ديدنه السمع والطاعة، ولا يوجد فى قائمة أعماله شىء عن العدالة الاجتماعية، ولا البناء ولا التنمية، ولا المساواة ولا القانون.
 
ولمن لا يعرف فإن الحل الأمنى لا يعنى غيابا للسياسة، وإنما تلك السياسة التى تقود إلى «النصر»، والتى تعنى مباشرة حسن ودقة تعريف الموقف، وبناء شبكات من الحلفاء لا تعرف التردد، وتحديد الأعداء وحلفائهم دونما خلط بين أولويات لا بد من التعامل معها، وأخرى يمكن تركها للتاريخ. بعد ذلك بناء الاختيارات المتاحة على ضوء الموارد والإمكانيات، وفى ذلك فإن اختياراتنا لن تكون دائما ما بين الجيد والسيئ وإنما أحيانا بين السيئ والأكثر سوءا، وبين المر والعلقم. لن يوجد بين هذا كله خيارات سهلة، ولكن علينا أن نتعلم كيفية العض على النواجذ أحيانا، والمبادرة أحيانا أخرى، والصبر فى معركة قد تكون طويلة وبطيئة ولا يوجد لها حل سحرى أو معركة فاصلة تتغير بعدها الأمور فتعود الأيام الطيبة الأولى. ما لدينا ثلاثة أسلحة ماضية: أولها أن تستمر عملية البناء مهما كانت المعوقات ومهما كانت الضربات فعلينا أن ننهض ونستأنف العمل. لا وقت للولولة، ولا للحزن. وثانيها أن العالم كله فى الإقليم وخارجه يواجه الإرهاب، وهنا فإن الحرب على الإخوان و«داعش» تحتاج منا إلى كثير من «السياسة» حتى يعرف العالم والحلفاء العلاقة بين أنواع مختلفة من «الخوارج». وثالثها أن توازن القوى فى صالح الدولة المصرية فى الداخل، وقوى الاعتدال فى الخارج، مهما كانت وحشية الإرهاب. ولكن المهم فى توازن القوى أن نعرف كيف نستغل ما نملكه من عناصر القوة. وربما كانت هذه المسألة وليس القوانين السائدة.
 
------------------------------
* نقلا عن المصري اليوم، الثلاثاء، 7/7/2015.
طباعة

تعريف الكاتب