مقالات رأى

هوايا مصري : إعلام الإحباط.. العمل عكس أولويات المجتمع

طباعة
يعد الإعلام هو الأداة الرئيسية لنقل الخبر من طرف إلى طرف آخر، وبالتالي يتصل مفهوم الإعلام بالوسائل، أو المؤسسات، أو التقنيات المستخدمة في نقل وتداول الأخبار. وهذا يقودنا إلى الدور المؤثر الذي يلعبه الإعلام في توجيه المواطن نحو تبني آراء ومعتقدات معينة، ومن ثم تشكيل المزاج العام الذي يؤثر فى توجهات الرأي العام في أي مجتمع من المجتمعات.
 
وبغض النظر عن التطور التقني الهائل الذي وفرته تكنولوجيا وسائل الاتصال الحديثة، فإن المادة المتداولة على المواقع الإلكترونية، أو على مواقع التواصل الاجتماعي، غالبًا ما تكون مرتبطة بمنتج إعلامي تم نشره أو بثه في
وسائل الإعلام التقليدية أو الإلكترونية. وهنا، تبدأ مواقع التواصل الاجتماعي، في توظيف هذا المنتج بما يحقق الأغراض التي تهدف إلى التخديم عليها.
 
وفي ظل استهداف المجتمعات العربية، ومصر بالتحديد، للتأثير فى المزاج العام لمواطنيها، وتحديد أولويات، واهتمامات، وشكل الرأي العام بها، تتعاظم كثيرًا أهمية المنتج الإعلامي الذي يتم تقديمه، والذي يعاد بثه عبر هذه المواقع، لينتشر تأثيره بصورة واسعة، في ظل انعدام وعدم فاعلية وسائل الإعلام القومية التي فقدت كثيرًا من دورها بفعل آليات مختلفة، وفي ظل انتشار الجهل المعلوماتي والثقافي الذي يقود إلى الميل الكبير نحو تصديق ما هو سيئ، أو مثير للبلبلة والجدل، دون تدقيق أو بحث، الأمر الذي يسمح لإعلام هذه الوسائل البديلة الإلكترونية بأن يتصدر المشهد، ويكون هو المتحكم الكامل في عملية تشكيل الرأي العام، وتكون هناك إشكالية كبيرة أمام أي محاولة لنشر المعلومات الحقيقية التي تكشف عن الأسباب التي تكمن خلف اتخاذ سياسات وقرارات بعينها. 
 
 المؤكد أنه منذ يناير 2011، تراجعت كثيرًا قوة وهيبة الإعلام القومي بكل وسائله في مصر لمصلحة برامج "التوك شو" في القنوات الفضائية الخاصة، وصار ما يقدم في هذه البرامج، ومن بعض الأسماء بعينها، هو عامل القلق والإحباط، ونشر اليأس، بما انعكس سلبًا على سلوكيات المصريين، وتحكم في ردود أفعالهم وطباعهم، بحيث صرنا نتعامل كأفراد وكأننا غرباء عن بعضنا بعضا. وكثير منا يتساءل: ما الذي أصابنا؟ فالمشاهد أننا أصبحنا محملين بطاقة سلبية غير محدودة، نعاني التعامل مع جيل شاب أصبح أكثر تمردًا وميلًا للعنف. بل إن العنف والعصبية صارا مزاجًا عامًا عند القطاع الأغلب من المصريين، وسادت السلبية واللامبالاة، وتحكمت في ردود أفعالنا تجاه بعضنا بعضا. وفي مواقف كنا نتفاخر فيها بالشهامة المصرية، علت قيمة الأنا فوق قيمة المصلحة الجماعية، وأصبحنا نعاني أمراض النرجسية، وانتشر الجشع، واستغلال أحدنا للآخر على المستويين الفردي والجماعي، ولم يعد هناك احترام للقانون أو الأعراف المجتمعية، أو التقاليد، بما فيها احترام الكبير على كل المستويات، وتم تغييب قيمة الوطن، وصار في آخر أولوياتنا أن نعمل، ونجتهد، ونصبر، ونبصر لنعالج أخطاء كارثية تأخرت قيادات الوطن في زمن سابق عن اتخاذها للحفاظ على استقرار وهمي.
 
فالمنتج الإعلامي يغير الأفكار والمعرفة، ويتحكم في المواقف والسلوكيات. ويمكن له، إن كان إعلامًا إيجابيًا، أن يصوغ الواقع بحسبانه جزءا من هذا الواقع، ويساعد الدولة في تحقيق ضبط التوجهات المجتمعية، ويسهم في عملية التنمية، وينشر الوعي بأولويات المجتمع، والقيم التي ينبغي أن يتحلى بها أفراده، لكي يكونوا القوة الدافعة لدولة في مرحلة النمو والانطلاق. أما لو كان إعلامًا سلبيًا، فإنه يلعب الدور العكسي تمامًا، فيسهم في الإثارة العاطفية والوجدانية للمواطن، بما يقود إلى الإثارة الجماعية، وذلك عبر ما يقدمه من منتج ومادة يسهمان في نشر القيم السلبية، واليأس، والإحباط، الأمر الذي يجعل المواطن يعيش في دائرة من الشك، والقلق، والتوتر، والترقب، والتحفز، وهذا ما يقوده في النهاية إلى أن يكون عاجزًا عن التفاعل الإيجابي مع ما يمر به وطنه من ظروف وأزمات، قد تتطلب إجراءات قاسية في بعض الأحيان، من أجل أن ينتصر لوطنه في معركته مع مخلفات لم يعد هناك بد من مواجهتها، بغية الوصول لمستقبل مختلف لأجيال قادمة.
 
فالثابت، وعبر قراءة طولية وعرضية لمقدمي برامج بعينها، على مر تاريخ الدولة المصرية، منذ يناير 2011 وحتى الآن أن تحليل مضمون الخطاب لما يقدمونه يحمل في طياته نقل خبر حدث بالفعل، ولكن يتم توظيفه بطريقة إثارية لـ "لتخديم" على توجهات الإطار الفكري لمعظمهم، أو لـ "لتخديم" على أفكار وتوجهات بعينها يرون أنها تميزهم عن أقرانهم، وأن لها جمهورها، خاصة أن برامجهم تجد دعمًا غيرر محدود من قبل رعاة برامجهم الذين يكادون يتماثلون. وغالبًا ما يتم في برامجهم نقل خبر، وتضخيمه بمقدمة مثيرة، أيديولوجية، نقدية، قترب من أحلام المواطن البسيط، الذي يدفعونه عبر ما يرافق المادة الخبرية من صور، وفيديوهات حقيقية، ولكنها تعبر عن حالات فردية، لتحفيز المواطن نحو تصديقهم، عبر الإثارة العاطفية والوجدانية له. ومعظم تلك المعالجات مليئة بوجهة نظرهم الأيديولوجية، أو بانحيازاتهم تجاه النظام الحاكم، وكلها تهدف إلى شحن الناس تدريجيًا لتغيير واقع بائس محبط فاشل، يعيشونه بحثًا عن الواقع اليوتيوبي الذي يتبارون لتصويره للمشاهد، بحسبانهم كهنته وحاملي أختامه السرية. كما تعمد معظم معالجاتهم في أيام افتتاح المشروعات القومية الكبرى إما نحو التقليل منها، أو نقدها، والسخرية منها، وإما نحو إثارة قضية جدلية من القضايا الساخنة التي تميزهم وحدهم، وهو ما ينعكس سلبًا في عدم القدرة على أن يصل المواطن لترجمة حقيقية لحجم ما تم إنجازه في دولة تعاني كثيرًا للبناء ولمواجهة الإرهاب، وتوجيه النقد الحاد والمستمر للدولة فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان، والحقوق السياسية. 
 
بل إن بعض المعالجات وصلت إلى التلميح المباشر بمسئولية الدولة، وجهاز الشرطة عن أحداث بعينها، كحادث مقتل الباحث الإيطالي ريجيني، وكما لو كان هؤلاء قد تحولوا إلى ناشطين سياسيين، إن لم يكن معظمهم كذلك بالفعل، ونشر كل ما هو سلبي، مقارنة بالإيجابيات التي تحققت، وهي أيضًا رسالة تبث روح اليأس، والتشاؤم، والإحباط بين المواطنين.
 
والواقع أن تحليل مضمون هذه البرامج، على مدى الفترة الزمنية السابقة، يبتعد عما تم التعارف عليه بالمسئولية الاجتماعية للإعلام، التي تصوروا أن حرية الإعلام أن يترك كل لنفسه العنان لنقد وهدم أي شيء، وكل شيء، بل وهدم منظم لقيم كانت راسخة في الشخصية المصرية. حرية الإعلام، من وجهة نظرهم، أنه لا ينبغي لأحد أن يراجعهم فيما يبثونه. حرية الإعلام، من وجهة نظرهم، أن أكيل كل ليلة النقد للنظام وللدولة، دون مراعاة أن هذه الدولة تحاول التخلص من آثار حكم نظامين ضربا بعرض الحائط مصالح المواطن المصري، الذي هو جوهر أمنها القومي، ودون مراعاة أن مصر لم تكن تلك اليوتوبيا التي يتصورونها، وإلا لما قامت ثورتان في أقل من ثلاث سنوات بحثًا من المواطن المصري عن نظام يضمن له البحث عن مستقبل أفضل. حرية الإعلام، من وجهة نظرهم، ألا يقدموا للمشاهد تحليلًا واقعيًا للمشكلات التي يعيشها، والتي تراعي ما يحتاج إليه الوطن من دعم ومساعدة، أو ترشيد للاتجاهات والسياسات الصعبة التي قد يضطر النظام لاتخاذها حفاظًا على قدرته على البناء للمستقبل، ولكنهم يقدمونها بما يخدم توجهاتهم وأيديولوجياتهم. 
 
ويبدو أنهم يتناسون أن المسئولية الاجتماعية للإعلام ترتكز على ثلاث دعائم، هي أنه حق، وواجب، ومسئولية. فعندما يقوم إعلامي بمخاطبة المواطن، عبر الشاشة، لنشر الأخبار والمعلومات، فعليه أن يقوم بذلك من خلال المهنية، والصدق، والموضوعية، والتوازن، والدقة، وعليه يكون الإعلامي مسئولًا أمام مجتمعه، وأمام مؤسسته الإعلامية. لذا، فعليهم ألا ينسوا أنهم يحبطون أبناء المجتمع بما يبثونه من رسائل رافضة، يائسة، بائسة، تشاؤمية على طول الخط، بما يجعلها الخبرة الدائمة التي تحكم توقعات المواطن من أي قرار أو سياسة تقر بمعرفة النظام، وبما يجعل المواطن دائم الريبة، والتشكك، والتأويل فيما يقره النظام، ودائمًا يكون المواطن متوقعًأ لما هو أسوأ، ودائمًا عابث الوجه، ومتضجرا. 
 
المسئولية الاجتماعية تقتضي أن تكونوا أداة مهمة للحفاظ على القيم الثابتة في المجتمع، والروح التفاؤلية، والقدرة على الصبر والتحمل لحقائق يعلمونها أكثر من غيرهم، بحكم اطلاعهم وعلمهم، غير أن رسائلهم دائمًا ما تأتي عكس ما يعلمون. عليكم، إذا كنتم جادين، أن تسهموا في تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي بما يساعد الدولة على تحقيق الاستقرار والتنمية الاقتصادية، بما تقدمونه من أفكار وأيديولوجيات، وبما تقدمونه من معالجات تخص حياة الناس، لاسيما المواطن البسيط منا. عليكم التوقف عن ترديد أي معلومة ترد إليكم بحجة السبق الصحفي والإعلامي، ومعظمها تكون من قبيل الشائعات والمعلومات قليلة الأهمية التي تتعمدون تضخيمها. عليكم أن تتحملوا مسئولياتكم أمام الله، وأمام المجتمع. لا تتصوروا أن شبابًا تقدمون له كل هذه السلبيات، وتصورون له أنه مضطهد، وأنه يعيش في ظل دولة طاردة له، يمكن أن يكون حريصًا على العمل، والإنتاج، والكفاح، والمثابرة. تذكروا الهجرة غير الشرعية، وتذكروا كم طرحتم من تساؤلات في برامجكم: "هو ليه الشباب عايز يسيب البلد ويمشي؟" لكي تتأكدوا من أنكم تتحملون مسئولية مصير أرواح يمكن أن تُزهق بفعل ما تقدمونه من مادة إعلامية لا تعمق الولاء، ولا الانتماء لوطن تعيشون معنا فيه. ولو غرق، فسيغرق بنا جميعًا، وأنتم معنا. فتزايد فكرة الهجرة المقننة، أو غير الشرعية، وترك البلد، سببه هذا التأثير النفسي السلبي السيئ لمنتجكم الإعلامي، بما أحدثه من تغيير في القيم الاجتماعية، والأخلاقية، والثقافية، والدينية، حتى بات أحب على الشاب أن يذهب في رحلة إلى المجهول، قد يدفع حياته ثمنًا لها، من أن يثابر ويكافح من أجل بناء وطنه.
 
وفي المقابل، لا يمكن أن ننفي التأثير السلبي الآخر لمجموعة من برامج "التوك شو"، التي ظهرت، وهي لا تحمل همًا إلا الدفاع عن النظام في ظل تصور أنها بذلك تحميه من هذه الهجمة الشرسة التي يتعرض لها من قبلكم، الأمر الذي أسهم في المزيد من التشتيت وعدم الاستقرار في اتجاه الرأي العام ما بين أقصى الصورة الظلامية التي تقدمونها، والصورة الوردية التي اضطر إعلاميون آخرون لتقديمها كمحاولة لإصلاح ما أفسدتموه.
 
أيها السادة جميعًا، من السوداويين والورديين، علينا جميعًا أن نعي أن الإعلام يسهم في عمليات التنمية، من خلال توجيه اهتمامات المواطن، وتحفيز انتمائه وولائه للدولة والمجتمع قبل النظام، ومن خلال تنمية الشعور بالوطن، وحثه على العمل، والقيام بالتزاماته تجاه وطن يحمينا جميعًا، ونحيا على أرضه، ومن خلال المناقشة النقدية التوضيحية للقرارات التي قد تضطر الحكومة لاتخاذها من أجل توضيح أبعاد اتخاذها، وليس فقط من أجل شحنه لمعارضتها أو تأييدها، ومن خلال ترسيخ ثقة المواطن في مؤسسات دولته، لا تشويهها، أو الصعود بها إلى السماء دون نقدها، وذلك من أجل مساعدة هذه المؤسسات على المضي قدمًا في عملية التنمية، ومن خلال إبراز الإيجابيات، وما يربط أبناء هذا المجتمع من روابط تاريخية، بما يقلل من حدة التناقضات في القيم والاتجاهات. 
 
طباعة

تعريف الكاتب

أحمد ناجي قمحة

أحمد ناجي قمحة

رئيس تحرير مجلتى السياسة الدولية والديمقراطية